تحقيق: هديل عادل يمنح العالم الافتراضي سكانه مساحة حرية بلا قيود تمنعهم من أن يكونوا بشخصياتهم كما يرونها أو يتمنونها. تستطيع أن تكون فيه كما تشاء: أديباً.. داعيةً.. سياسياً..حكيماً...إلخ، وأن تبرز قدراتك الإبداعية الفنية والثقافية والشعرية والكتابية والتقنية، وترى اهتماماً وإقبالاً من الكثيرين والمهتمين بما تقدمه من مشاركات، فتشعر بأنك شخص له قيمة.. له متابعون وأصدقاء كثيرون، ولكن يا ترى هل حقاً نحن كما يرانا الآخرون من خلال ما نقدم أونطرح على صفحاتنا؟ وهل منحنا هذا العالم الفرصة لنعيش شخصيتنا كما هي أم نصنع لنا شخصية أخرى لم نستطع تحقيقها على أرض الواقع؟ تتحدث إيمان العميرة (باحثة تربوية) عن تجربتها في العالم الافتراضي قائلة: عندما أنشأت حساباتي كان ذلك في البداية بدافع التواصل مع صديقاتي والاطّلاع على صفحاتهن ومشاركتهن اهتماماتهن، ولم أكن أشعر برغبتي في مشاركة أخباري أوخواطري مع الجميع، ولكني بعد ذلك بدأت أغير رأيي وأعتقد أن شخصيتي في العالم الافتراضي تعكس جزءاً مهماً من شخصيتي الواقعية، وهو جزء متمثل في التعبير عن نتاج تأملاتي وانعكاس الأحداث على شعوري، وفي العادة لا أتمكن من البوح به قولًا، أما بالنسبة لعلاقاتي في العالم الافتراضي فأنا أطبّق ما أؤمن به من قواعد التعامل الاجتماعي في الواقع، فالاحترام واللطف والتفهّم واختيار من أتابعهم وأتفاعل معهم وفق معايير أتّبعها عند اختيار الصديقات، كلّها منعكسة في تعاملاتي على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث إنني أسعى دوماً إلى انتقاء أفضل التعابير عند الكتابة في صفحاتي التي اخترت أن يكون محتواها باللغة العربية الفصيحة التي أحبها وأستمتع بممارستها. تتعامل جوهرة الحداد (طالبة جامعية) بحذر في علاقاتها وتصرفاتها مع الجميع، ولعل ذلك جعلها أقل انفتاحاً على محيطها، ولكن الأمر مختلف في العالم الافتراضي الذي منحها فرصة أكبر للاقتراب من الآخرين تقول: لاشك في أنني أفكر كثيراً وأنتقي مشاركاتي على صفحاتي في برامج التواصل الاجتماعي؛ لأنني بطبيعتي إنسانة حذرة وحساسة جداً، ولكن العالم الافتراضي أتاح لي فرصة الالتقاء بشخصيات تشاركني اهتماماتي، ما ساعدني على تطوير مهاراتي الاجتماعية، وجعلني أكثر انفتاحاً على محيطي وواقعي. وتؤكد شذا العيدروس (طالبة جامعية) فكرة وجود اختلاف بين شخصية الإنسان في العالم الافتراضي والواقع، قائلة: أنا في الواقع شخصية منطلقة ومرحة جداً، ولكن مشاركاتي في برامج التواصل الاجتماعي تعطي انطباعاً بأنني شخصية جدية، وكل من يعرفني يقول لي ذلك، وأعتقد أن سبب هذا الاختلاف أنني أعتبر أن ممارساتنا وأقوالنا وخصوصياتنا التي نعبر عنها في محيطنا الضيق يجب ألّا تكون متاحة للعامة عبر برامج التواصل الاجتماعي، ولهذا تجدني متحفظة في مشاركاتي والتعبير عن آرائي واختياراتي لصداقاتي.يجد محمد الجسمي (مهندس) أن شخصيته تقترب إلى المثالية في العالم الافتراضي، مبرراً هذا الاتجاه بقوله: لاشك في أن صفحاتنا التي نعبر فيها عن آرائنا ومعتقداتنا وقيمنا تعكس شخصياتنا لمن يتصفحها ويتابعها، ولهذا من الطبيعي أن ننتقي مشاركاتنا، وبالتأكيد لن نبرز سلبياتنا على هذه الصفحات، ولهذا تبدو شخصيتنا مثالية أكثر في العالم الافتراضي، ولكن ليس لدرجة التناقض، وبالنسبة لي تعبر الحالة التي أعيشها في العالم الافتراضي عن تطلعاتي لنفسي أكثر من أي شيء آخر، ولهذا فإن أغلب مشاركاتي تجسد اقتناعاتي ورؤيتي لنفسي ومستقبلي، وتجذبني كثيراً مشاركات الأشخاص الناجحين والمبدعين، وتلهمني بدرجة كبيرة، فأنا من المؤمنين بأن النجاح والتميز والإبداع تنتقل بالعدوى.أم هدى (موظفة) تقول: جميع مشاركاتي في برامج التواصل الاجتماعي تعبر عن شخصيتي الحقيقية، فأنا أخجل أن أكتب شيئاً لا أقتنع به، أو لا يعبر عن أفكاري وقيمي، فيكون مجرد اقتباس من أفكار الآخرين، وأعتبر نفسي عضوة نشطة في برامج التواصل الاجتماعي، ما يضيف لي الكثير، ولا شك في أنني وجدت في هذه البرامج فرصة للتعبير بحرية أكثر عما يجول في خاطري، والأهم أنني وجدت من يتابع مشاركتي ويناقشني، وهذا ما نفتقده في واقعنا للأسف. صدق يحتمل الكذب عندما طرحنا على الاختصاصية النفسية هند الدهمان سؤالنا، «هل شخصيتنا في العالم الافتراضي هي نفسها شخصيتنا في الواقع؟» أجابت موضحة، بأن كثيرين يدخلون العالم الافتراضي للتواصل مع أصحابهم وأقاربهم، أو للتعرف إلى أصحاب جدد، وتحت تأثير سحر هذا العالم المفتوح، ينجر كثيرون نحو الرغبة في الظهور ليس بدافع الخداع أو الكذب، ولكن من أجل إبراز شخصياتهم والتعبير عنها، خاصة أن العالم الافتراضي يفتقر إلى حركات ولغة الجسد، فعندما نتعرف إلى إنسان في الواقع، فإننا نلاحظ طريقة كلامه ونبرة صوته وإيماءاته التي يستعملها أثناء الكلام وحتى من دون الكلام.. كذلك نلاحظ تعابير الوجه وتواصل العين وإشاراتها، ويعطينا مجموع هذه الأمور صورة مناسبة عن شخصية الفرد، ولكن في العالم الافتراضي جميع ما ذكر من خصائص للشخصية يغيب عن ملاحظتنا، ويبقى تركيزنا فقط على الكتابة، ولا شك في أن هناك اختلافاً بين الناس في قدراتهم على التعبير عن أنفسهم بشكل مناسب، أو عن إمكاناتهم في استخدام أدوات العالم الافتراضي، وكثيراً ما نتعامل مع أشخاص بدا لنا أنهم متصلبون قاسون من خلال مشاركاتهم في برامج التواصل الاجتماعي، ولكن يظهر العكس في الواقع، وفي المقابل قد يتراءى لنا أشخاص مرنون ودودون في العام الافتراضي، لكن في تعاملهم الواقعي تجدهم عكس ذلك تماماً.وتوضح الاختصاصية بعض حالات الأشخاص في العالم الافتراضي قائلة: كثير من الناس اختاروا وأجادوا التعامل بفطرتهم وطبيعتهم الحقيقية في العالم الافتراضي؛ لأنهم ببساطة لا يحبون التلون والادعاء، وهم في الأغلب شخصيات صادقة مع نفسها ومحيطها في العالم الافتراضي والواقعي، وفي حالات أخرى يبدأ الإنسان بالبوح عن نفسه وعن حياته وعرض آرائه والحديث عن عيوبه، ولكن بأسلوب مثير للإعجاب، وأحياناً للشفقة، وخطورة هذا الصدق أنه يحتمل الكذب، ولكنه صعب الكشف، وهناك حالة أخرى يعبر فيها الإنسان عما يريد أن يكونه في المستقبل، ويعجز أن يكونه في الحاضر، والتقمص هو ذروة تبلور مركب الصدق والكذب معاً، ففيه من الصدق أنه يحتوي على أشياء حقيقية قد تكون موجودة في الشخص، وفيه من الكذب أنه ليس الواقع كله.وتتابع: هناك من يتعمد الكذب وتزييف حقيقته في العالم الافتراضي، ويحدث ذلك بشكل واعٍ من خلال تفعيل آليات التبرير والتمرير لإشباع لذة التواصل البديل عن الواقعي المفتقد، ويظن الإنسان الكاذب أنه يدير التجربة باقتدار، بينما التجربة هي التي تديره، ولكن في حالات أخرى وهي الخطر يمارس الأشخاص الكذب من دون وعي، ويحدث هذا من أجل استمرار التواصل الذي يخلق نوعًا من الإدمان والشعور بالاحتياج.
مشاركة :