في أبريل من كلّ عام، يستذكر اللبنانيون الحرب الأهليّة (1975- 1990) بالرموز، فلا يسمّون القاتل باسمه، ولا يعترفون بأخطائهم أو أخطاء زعمائهم.. يختبئون خلف ماضٍ يريحهم، أحياناً، أنه بقي غير موثّق ولا متّفقاً عليه، ولسان حالهم القول: «هكذا أفضل»، كمدخل إلى النسيان وإسقاط المسؤوليات، بعيداً عن المصارحة التي يمكن أن تقود إلى الغفران، فالمصالحة.. ولكن، تلك الخطّة العفوية تكرّس في دواخل اللبنانيين بعض الأحقاد الدفينة، المعزّزة بالاتهامات، وتحميل المسؤولية للآخر... دوماً «الآخر»، وأحياناً «الغريب»، ما يبقيهم بمنأى من التعامل مع الدّين الثقيل للحرب، وما يعرقل أيّ مشروع لطيّ الماضي. في المقابل، فإنّ أحد المشاريع الأساسية، التي تنطلق منها الدول في تنقية ذاكرتها المشوّهة، تقوم على ترتيب الحقائق، وتوفيرها، وطرحها على الحاضر، وأمام اللبنانيين. ويكون ذلك عبر افتتاح متاحف ومراكز للتوثيق، وتوفير أرشيف يضع تفاصيل الأيام الحربية السوداء نصب عينيّ كلّ من شارك بالحرب وتضرّر منها، كي لا ينساها ويتوهّم طيب العيش خلالها، ويصنع لنفسه ذكريات مجتزأة منها.. وما تقدِم عليه الدول الأوروبية والمتحضّرة، في المجال المذكور، لا تكترث له أيّ جهة رسمية في لبنان، بل يتكفّل به مجتمع مدني ناشط، يحاول أن يحلّ محل المؤسّسات الرسمية، كلما قصّرت في أداء أحد أدوارها الأساسية حيال الدّين الثقيل للحرب، ومن فصوله الممتدّة حتى يومنا هذا تبرز حكاية المفقودين والمخطوفين في لبنان، وعائلاتهم التي لا يزال بعضها يتخبّط في خضمّ مشاعر وقصص غير محكيّة، بعد عقود من العيش مع فراغ عقيم خلّفه فقدان الأحباء. أحزان غير منسية وكعادتها في كلّ 13 أبريل، تحزم العائلات خيباتها وأحزانها وما تيسّر من مستندات ووثائق وصور باتجاه قلب المدينة الذي كان شاهداً على ضراوة حرب العام 1975، ويشهد في الموعد ذاته من كلّ عام على وجع الأهالي في تلاقيهم في الخيمة التي نصبوها من عقود في حديقة جبران خليل جبران، هناك حيث شكّلوا لجنة «أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان»، وأطلقوا هذا العام حملة «لائحة المفقودين في كل لبنان»، مسجّلين عاماً آخر في عهدة الغياب والغياب، فيما رصدت عدسات الكاميرات مشهد عجوز، وصلت بصعوبة بالغة إلى المكان. حملت بيدٍ عكازاً أعانها على السير، وباليد الأخرى صورة بالأبيض والأسود لأبنائها الأربعة: عزيز وأحمد وإبراهيم ومنصور، الذين خطِفوا من قبل مسلّحين مجهولين في بيروت عام 1979. ولكون الماضي اللبناني لا يزال حاضراً، بثقله وبهواجسه و«أبطاله»، ولكون عنف الماضي لم «يُفرّغ» ولم يُناقش ولم يُروَ بالكثافة التي يمكن أن تنشر وعياً عاماً حول عواقبه، فإن «هذه الحياة مسرحية»، تقول فاطمة في رسالتها إلى والدها عبدالغني وشقيقها يوسف، اللذين فقدا في العام 1982، «دفعنا الثمن»، تقول، وهي التي اهتمّت بـ14 شخصاً بعد هذا الغياب (إخوتها الصغار وأولاد أخيها).. «في بالي صور سوداء عن مستقبل لبنان، لكن هناك صورة أخرى بالأسود والأبيض من الماضي، لا تزال معلّقة على الحيطان، أو تقبع في حضن أمّ تبكي»، يقول زياد.. أما سجلات المفقودين، فلا تعني شيئاً في غيابهم، لكنّ حفظ أسمائهم الأولى، وحدها، يمنع تحوّلهم إلى مسألة رقمية.. «قد تكون، بالنسبة إلى العالم، رقماً.. لكنك، عندنا، تملك اسماً وحياة ينتظرانك». وهذه العبارة من رسالة عليا إلى والدها ادوارد الذي اختفى في فبراير 1986. «فقِد أثر العائلة، ولم يُعرف عنها أيّ شيء منذ ذلك الحين»، أي منذ 43 عاماً. لا تهمّ الأسماء ولا المنطقة التي فقدت فيها ولا القضية التي لأجلها خطِفت العائلة، أو تشرّدت، أو جرى تصفيتها على أحد الحواجز الطيّارة وعلى عين مقاتلين مقنّعين وفي حضور صراخ نسوة وأطفال، ذلك أن القضية، في العرف اللبناني الذي صفح وعفا وغفا عمّا مضى، باتت تشبه «حدوتة» تُروى للأطفال قبل النوم: «وبعدما أنقذ البابا ليلى من الذئب، يمكن أكله الذئب»! حكايات بالأبيض والأسود وفي عهدة ذئاب بشرية من زمن الحرب، يبقى مصير 17 ألف مفقود في الحرب الأهلية اللبنانية مجهولاً، تتلقفه الأمهات والزوجات والشقيقات مثل خبر مشكوك به، ومثل حقيقة لا بدّ أن تنتهي على خير. إلا أن العودة المنتظرة باتت في عهدة مرويات تتناقلها العائلات عن آخر مكان شوهد فيه المخطوف، وعن السيارة أو الشاحنة التي أقلّته، وعن الوجوه التي استدرجته، وعن الوجهة والزمان والمكان وأمور أخرى جرت المتاجرة بها على حساب الأهالي الذين رحلوا بمعظمهم وفي قلوبهم حرقة الضنى الذي قد يأتي على غفلة وقد لا يعود يوماً. «17000»، هو رقم يشير إلى العدد المقدّر للبنانيين الذين خطفوا أو فقدوا خلال سنوات الحرب الأهلية في لبنان (1975- 1990).. وهذا العدد يشكّل هاجساً لدى الكثيرين، ومنهم أعضاء جمعية «معاً من أجل المفقودين»، وهي جمعية تسعى إلى تعزيز الوعي في أوساط الشباب حول قضية المخفيّين قسراً والمفقودين، وإلى تسليط الضوء على بعض من حكاياتهم وأحوالهم المنسيّة. وذلك، من خلال إقامة معرض سنوي، كان هذا العام عبارة عن قصة متسلسلة، عرِضت حلقاتها على الواجهات الزجاجية في مبنى وزارة السياحة (محلّة الحمرا)، حيث كُتب الرقم «17000» على اللوحة الأولى وفي خلفيتها صور متراصّة لبعض المفقودين، وهي صور شمسيّة باللونين الأبيض والأسود، وصغيرة جداً يصعب على المشاهد رصد أيّ ملامح فيها.. الوجوه «مفروشة» أمام المارّة، كأنها موجودة وغير موجودة، وكأنها واقع ثقيل. هم واقع وليسوا فقط ديكوراً، هم ألـم وليسـوا صـوراً فحسـب. قضية غير طبيعية وعلى الواجهة الثانية، عرضٌ لصور جرّافات وهي الآلة والوسيلة التي رفعت حقيقة في يوم من الأيام، والتي أخفت حقيقة في أيام أخرى. هي الآلات التي حفرت المقابر الجماعية التي تراكمت فيها جثث مخطوفين، وهي عينها التي طمرت أشخاصاً كانوا في الحياة ولم يتسنَّ حتى معرفة هوياتهم.. أما على الواجهة الأخيرة، فتكدّست فوق بعضها البعض وجنباً إلى جنب «رزم» ثياب، وكتِب على الزجاج «بس أكيد باقيلنا منّن شي».. «بالات» (مجموعات) منفصلة مرصوفة. كلّ «بالة»، مجموعة لربما ترمز إلى مقبرة جماعيّة، فالضحايا من «نزلاء» المقابر الجماعيّة كانوا يُدفنون بملابسهم فوق بعضهم البعض. أو لعلّها «رزم» ألبسة تخصّ المفقودين.. و«الثياب آثار الأشخاص. وفي المحصلة، هي رسالة تُوجّه في مكان ذي رمزية بالغة، فالمارّ أو السائح، الذي اعتاد أن يتعرّف خلف الواجهات الزجاجية التابعة لمبنى وزارة السياحة إلى معالم لبنان السياحية الطبيعية، من قلاع بعلبك وعنجر وجبيل والزيّ اللبناني التقليدي، يتعرّف إلى قضية غير طبيعية، تكاد الجهات الرسمية تتعامل معها كمعلم سياحي تتفرّج عليه من بعيد! اقرأ أيضاً: ـــ مئات القصص يلخصها كتاب «وقلْت بِكتبلَك»Ø·Ø¨Ø§Ø¹Ø©EmailÙيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :