صحيح أن جامعة بلغراد شهدت في 1926 افتتاح أول قسم للاستشراق في البلقان، ولكن يمكن القول أن الدراسات الشرقية في يوغسلافيا السابقة شهدت تحولاً كمياً ونوعياً في 1950 مع إنشاء قسم للدراسات الشرقية في جامعة سراييفو وافتتاح معهد للدراسات الشرقية، كان الأول والوحيد من نوعه في يوغسلافيا السابقة حتى انهيارها في 1991. فمع الجيل الأول من الأساتذة والباحثين (حازم شعبانوفيتش و توفيق مفتيتش وعبدو سوتشسكا وغيرهم) سواء في القسم أو المعهد، بدأت تبرز مقاربة جديدة للدراسات الشرقية لا تتحكم فيها عقد المركزية الأوروبية وتركز على الوصول إلى المصادر والمخطوطات وتحقيقها ونشرها وترجمة أمهات الكتب وعلى رأسها القرآن الكريم من العربية مباشرة، حيث أصدر معهد الدراسات الشرقية أول ترجمة له من العربية في اللغات اليوغسلافية (الصربية والكرواتية والبوسنوية) أنجزها بسيم كركوت. وفي هذه الحاضنة الجديدة للدراسات الشرقية (سراييفو) برز الجيل الجديد من الباحثين الذين حققوا إنجازات نوعية في هذا المجال سواء بدراساتهم أو ترجماتهم للمصادر مثل أسعد دوراكوفيتش وأمير لوبوفيتش وأنس كاريتش وغيرهم. وفي هذا السياق يكفي أن نتوقف هنا عند مقدمة ابن خلدون للدلالة على النقلة النوعية في الدراسات الشرقية بعد تأسيس قسم ومعهد الدراسات الشرقية في سراييفو وقسم الاستشراق في جامعة بريشتينا (1973) الذي جاء حصيلة جهد من تخرّج في بلغراد وسراييفو. ففي السابق، كانت هناك إشارات إلى ابن خلدون ومقدمته واستشهادات منها بالاستناد إلى ما هو منشور من دراسات في الفرنسية والإنكليزية، التي أعلت كثيراً من شأن ابن خلدون باعتباره مؤسساً لعلم الاجتماع. ففي الربع الأخير من القرن المنصرم برز د. حسن شوشيتش الذي كان قد تابع دراسته في القاهرة وخصّص رسالته للدكتوراه عن ابن خلدون بعنوان «الفرضيات المنهجية في أعمال ابن خلدون»، التي نشرها معهد الدراسات الشرقية في 1973. وخلال عمله في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة سراييفو عمل د. شوشيتش أول مرة على مقاربة جديدة تعتمد على ما كتبه ابن خلدون، بخاصة في مقدمة كتابه «تاريخ العبر والمبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر». وبالاستناد إلى ذلك بدأ د. شوشيتش ينشر دراسات جديدة ساهمت في التعريف بابن خلدون في شكل أعمق، ومن ذلك دراسته «المعنى الاجتماعي والسياسي للعصبية عند ابن خلدون» التي نشرها في 1975، ثم قام بنشر مختارات من مقدمة ابن خلدون مع ترجمة ودراسة لها في سراييفو عام 1982. وفي غضون ذلك كان الباحث المخضرم توفيق مفتيتش (1918 - 2003)، الذي يُعتبر من الجيل المؤسس لمعهد الدراسات الشرقية وصاحب أول قاموس عربي – صربوكرواتي، يعمل على ترجمة كاملة للمقدمة التي تأخر صدورها إلى ما بعد وفاته في 2007. ونظراً إلى ذلك فقد ذيّلت الترجمة بدراسة للباحث المعروف في الدراسات الإسلامية أنس كاريتش. وعند صدور هذه الترجمة كان يحيى هندوزي، المحاضر في قسم الاستشراق بجامعة بريشتينا، قد بدأ عمله في ترجمة المقدمة كاملة إلى اللغة الألبانية. وقد صدرت هذه الترجمة كاملة في مجلدين عام 2012 عن دارين للنشر (فيالا إبوكور و فونداكوس) في بريشتينا. وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذله هوندوزي خلال سنوات، إلا أن الناشر أسقط اسمه من الغلاف الخارجي الجميل، وترك للمحرر د.عوني عبدي أن يعرّف القارئ الألباني بابن خلدون وكتابه. ومقارنة بالبوسنة والمجال اللغوي اليوغسلافي، الذي شهد كما رأينا دراسات ثم مختارات من المقدمة وصولاً إلى الترجمة الكاملة، فإن مقدمة ابن خلدون جاءت فجأة من دون تمهيد مسبق في العالم الألباني، وحتى من دون تعريف كاف بها وحتى بصدورها. فصدور كتاب مهم مثل مقدمة ابن خلدون يعني حدثاً علمياً وثقافياً يستحق الاحتفاء به من دون شك. في مقدمة المحرر د. عبدي ينطلق من أن مقدمة ابن خلدون نالت الكثير من التقدير لتعدد الموضوعات فيها، حيث إن القارئ كالسائح الذي ينتقل بانجذاب من موضوع إلى موضوع أو من مجال إلى مجال آخر. وإضافة إلى ذلك فإن د. عبدي يعتبر أن مقدمة ابن خلدون تعتبر من الكتب النادرة التي تجمع ما بين التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والدين والأدب. وفي هذا السياق، كما يضيف المحرر، فإن ابن خلدون في كل هذه المجالات يصحّح الكثير من المعطيات أو المعارف غير الدقيقة أو المحرفة عن الأصل، لذلك ينبّه القراء إلى التدقيق في المصادر التي ينهلون منها معلوماتهم. وفي مقارنة طريفة بالواقع الألباني، يشير المحرّر إلى مقولة ابن خلدون التي يحذر فيها من التقليد الأعمى المترسّخ في طبع الإنسان والتناول السطحي للموضوعات ويضيف أن هذه الظاهرة «أصبحت راهنة أكثر الآن مع انتشار الإنترنت والقنوات الفضائية، وأن «ظاهرة القصّ واللصق أو السرقات تتكرر آلاف المرات لأنها تتم من أجل الحصول على الشهادة وليس من أجل الحصول على المعرفة». في النهاية يتوقف د. عبدي عند مقاربة ابن خلدون للدين وعن مكانة الدين في الدولة، حيث يميز ابن خلدون بين الدولة التي تقوم على قوانين سياسية عقلية التي يكون جلّ اهتمامها أمور الدنيا وتخدم الحاكم في الدرجة الأولى، وبين الدولة التي تقوم على القوانين السياسية الدينية أي «الحكم بشرع الله»، مفضلاً النوع الثاني في نهاية الأمر. وبسبب ذلك فإن د. عبدي ينتهي فجأة إلى أن نهاية التاريخ لن تكون كما طرحها فوكوياما بل إنها «تعني بروز علامات يوم القيامة حين تتبخّر الأيديولوجيات وتسيطر الحقيقة الإلهية المطلقة مع هبوط عيسى من السماء الذي سيستمرّ في الحكم بشرع محمد ما دام حياً». ومن الملاحظ هنا أن مثل هذا الإنجاز الكبير بالنسبة إلى العالم الألباني كان يستحق أن يحضر فيه المترجم في شكل أوضح وأن تكون المقدمة للترجمة الألبانية أكثر شمولية وأكثر نقدية طالما أن ابن خلدون نفسه دعا إلى المقاربة النقدية لما نقرأ.
مشاركة :