في الحديث عن أخطاء المعارضة، بعد مرور حوالي ثمانية أعوام على الصراع الجاري في سوريا، بتعقيداته ومشكلاته ومداخلاته الخارجية وأثمانه الباهظة، يجدر بنا التمييز بين جماعات بشرية تشكّلت في كيانات سياسية وعسكرية ومدنية، وبين الثورة السورية، كحالة فعل شعبية عفوية، كما يجدر التمييز أيضا بين تلك المعارضة بمواقفها وطرق عملها وعلاقاتها، وهي موضع نقد، وبين توق السوريين المشروع للحرية والكرامة والديمقراطية. وللإنصاف فإنه يجدر التمييز هنا، أخيراً، بين الأخطاء الناجمة عن الواقع الموضوعي، أو عن المعطيات المحيطة، أو عن المداخلات الدولية والإقليمية، والمشكلات او النواقص الناجمة عن الجهات التي تصدرت المعارضة وطبعتها بطابعها، في كل المجالات. على ذلك؛ قد يمكن حصر أهم الأخطاء التي وقعت فيها المعارضة السورية، في الجوانب الآتية: 1 – لم تنتبه المعارضة إلى أخطار تبديد الهوية السياسية للثورة، بسبب التلاعبات الخارجية بها، وبحكم ضعف بنيتها السياسية، وبواقع غلبة نفوذ الجماعات العسكرية متعدّدة الاتجاهات والولاءات، التي أخذت الثورة إلى خطابات أخرى. وكان يفترض بالمعارضة -وهذا مبرر وجودها- أن تكون أكثر حرصًا على التمسك بخطاب الثورة، وتوضيح ماهيتها، باعتبارها ثورة ضد الاستبداد، ومن أجل تحقيق الديمقراطية وإقامة دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، واعتبار سورية لكل السوريين. طبعًا، ليس القصد هنا أن المعارضة غيّرت خطابها، بل القصد أنها سكتت عن خطابات الجماعات العسكرية المتطرفة، ذات الطابع الطائفي والديني، التي هيمنت على المشهد، وهو ما أفاد منه النظام. 2 – لم تبدِ المعارضة الانتباه اللازم إلى أخطار تفريخ الجماعات العسكرية متوزعة الولاءات، ولا إلى أخطار تصعيد الصراع المسلح، فوق الإمكانات وفوق القدرة على التحمل، وبمعزل عن فكرة الدفاع عن النفس أو التطور في أحوال الثورة ذاتها وأحوال مجتمعها. وما أضعفَ موقفَ هذه المعارضة أنها بدت منقطعة الصلة بالجماعات العسكرية، وغائبة تمامًا عمّا يعرف بالمناطق “المحررة”، التي لم تستطع فتح مكتب فيها، وهذه معضلة أخرى، نجم عنها غياب نشاط المعارضة في الداخل السوري. وربما لا نضيف جديدًا بالقول إن هذه المعارضة، بغض النظر عن الادعاءات، لم يكن لها أي قرار أو دور، بخصوص التحول نحو الصراع المسلح، ولا في شأن إيجاد مناطق محررة. 3 – كشفت تجربة المناطق “المحررة” إخفاقًا كبيرًا؛ إذ لم تنجح فصائل المعارضة العسكرية المسيطرة في إدارة أحوالها، ولا في التسهيل على الثورة، فضلًا عن أنها خسرت في الصراع على النموذج مع النظام. ومع معرفتنا بعدم علاقة المعارضة بهذه المناطق، التي بدت بمثابة إقطاعات لجماعات عسكرية، فإن مسؤوليتها تكمن في عدم نقد هذه الظاهرة، وسكوتها عنها، لكسب رضى القوى المهيمنة. 4 – لم تدرك المعارضة جيدًا الأخطار الكامنة، وراء تشريد ملايين السوريين، ونزوحهم إلى مناطق أخرى، أو تحولهم إلى لاجئين في البلدان المجاورة أو في بلدان العالم، إذ أن ذلك أخرج السوريين من معادلة الصراع، وحرَم الثورة من البيئات الشعبية الحاضنة، وسهّل على النظام تنفيذ مخططاته، فضلًا عن أنه حوّل القضية السورية إلى قضية إنسانية أو قضية لاجئين. 5 – في علاقتها مع ما يسمى “معسكر الأصدقاء”، يؤخذ على المعارضة ضعف حساسيتها إزاء التدخلات والإملاءات الخارجية، في تحديد خطاباتها وأشكال عملها، ومن جهة حضور ممثلين لبعض الدول في بعض اجتماعاتها، وذلك في غمرة اعتمادها على الخارج، وارتهانها له، لا سيما بعد التحول إلى العمل المسلح، من دون ملاءمة ذلك مع مصلحة السوريين وأولوياتهم، علمًا أن الدول لا تعمل كجمعيات خيرية، وإنما وفق رؤيتها لمصالحها ولدورها الإقليمي وللنموذج الذي تريده. 6 – ظلت المعارضة السورية، طوال الفترة الماضية، تتحرك وفقًا لخطاب المظلومية، ووفقًا لنزعة تطالب الدول الغربية بالقيام بما عليها لنصرة الشعب السوري، إن بإيجاد مناطق آمنة، أو مناطق حظر جوي، أو بوضع حد للقصف بالبراميل المتفجرة، لكنها لم تنتبه إلى أن خطاب المظلومية والحق والعدالة لا يكفي لتعاطف العالم، بدليل تجربة الفلسطينيين. والحال أن الدول تشتغل على أساس المصالح وموازين القوى، لذا ربما كان الأجدر بالمعارضة أن تشتغل على بناء ذاتها، وتعزيز هيئاتها، وأن تحافظ على خطاباتها المتعلقة بالحرية والديمقراطية والمساواة والمواطنة، التي تنسجم مع القيم العالمية، كي تكسب ثقة هذه الدول واحترام مجتمعاتها. 7 – فيما يخص المسألة القومية، لم تستطع المعارضة إنتاج خطاب يعزز الثقة بين مكونات الشعب السوري، الأثنية والدينية والمذهبية، لا سيما مع سيادة الخطاب الطائفي-الديني، الذي عنى أنها تأثرت بخطاب النظام، أو استُدرجت إليه. ومثلًا، في القضية الكردية تبنت الموقف التركي، ولم تتعاط مع المسألة الكردية في سورية، بوصفها مسألة سورية، والمسألة الكردية في تركيا بوصفها مسألة تركية، ولم تجمع في خطابها بين حقوق المواطنة والحقوق الجمعية “القومية” للكرد، بوصفهم جزءًا من أمة أكبر (مثل الأمة العربية). 8 – لم تقم المعارضة، حتى الآن، بعد ثماني سنوات، بما عليها لتنظيم وتعبئة مجتمعات السوريين، في الداخل وفي بلدان اللجوء، بل لم تقم أي هيئات منظمة، حقيقية وفاعلة، تنشط في أوساط تجمعات اللاجئين السوريين في البلدان الأوروبية، مع وجود انتخابات أو من دونها، ناهيك عن غياب الأنشطة المنظمة في مجتمعات هذه البلدان. 9 – فقدت المعارضة استقلاليتها، بسبب اعتماديتها على هذه الدولة أو تلك، في كل شيء، حتى في النفوذ السياسي، وفي بناء الكيانات، وفي اتخاذ القرارات.
مشاركة :