القاهرة – ينخرط العرض المسرحي “خلل” في أزمات المجتمع المصري، وعلى رأسها انتشار العنف والإرهاب بسبب التنشئة الأسرية الخاطئة، ويقدم العرض رؤية شابة لفنون المسرح وجمالياته مسلّحة بالوعي والقدرة على الاشتباك مع الواقع. وترصد مسرحية “خلل” من خلال غوص تشريحي في طبقات النسيج المجتمعي المصري مراحل غرس ونموّ بذور العنف والإرهاب، بالإضافة إلى مشكلات كثيرة أخرى تعوق الإصلاح والتنمية والتطور وتهدد انطلاقة الأجيال. من بين الطرق التي تسلكها التجارب المسرحية الجديدة في مصر لاجتذاب الجمهور والتفاعل معه، مسار يعتمد الانطلاق المباشر من قضايا المجتمع المصيرية وأزماته الملحّة، ومحاولة فهمها وكشف أسبابها وربما علاجها. ومن العروض التشاركية التي تدور في هذا الفلك مسرحية “خلل”. يتجه العرض المسرحي من خلال مجموعة الفنانين الشباب بفرقة “كيو” إلى الشباب في المقام الأول، ليس فقط لأنهم يمثلون السواد الأعظم من جمهور مسرح ساقية الصاوي بالقاهرة والذي شهد مولد المسرحية، وإنما أيضا لأن خميرة مشكلات المجتمع وقضاياه المتأججة مرتبطة بهؤلاء الشباب، ولا أمل في حلها وتجاوزها دون استفاقتهم وعودتهم إلى المسار الصحيح. ويبدو أن الإقبال الجماهيري على العروض التي تقدمها ساقية الصاوي، جعل القائمين عليها يضاعفون من الأعمال المسرحي، خاصة التي تهم قطاعات كبيرة من الشباب، وتناقش قضايا سياسية حيوية. تراهن مسرحية “خلل” للمؤلف محمود حمدي والمخرج محمد الدسوقي، على الشبابية كذلك من خلال الأداء الفني ذاته، روحا ونبضا وتجسيدا وتعبيرا وحركة، فأمام طوفان هذه الطاقة الحيوية المتفجرة لدى الأجيال الجديدة الواعدة، يمكن أن يزول “الخلل” من الواقع، ويتلاشى الخطر. يؤمن صنّاع العرض بأن المسرح لم يعد ذلك القالب النمطي الجامد الذي يقصده متلقون سلبيون، إنما هو بوتقة لانصهار الفنون الحديثة كلها، وفضاء عصري للدراما التحاورية المتفاعلة مع جمهور مثقف له رؤية وبصيرة، ولا يمكن التأثير فيه دون تقنيات جمالية متطورة مبهرة، ورسالة قيّمة، سريعة، مكثفة، لا تعتمد التوجيه، ولا تلجأ إلى المباشرة. مراحل الهلاك ثمة قضية محورية ومشكلات أخرى ذات صلة تطرحها المسرحية، والتي يبدو عنوانها عتبة شارحة لمنطلقها الرئيسي وطرائقها الفرعية، فالخلل هو سيد الموقف في الواقع المأزوم الذي تشتبك المسرحية معه بجرأة ووعي. القضية المحورية هي انتشار العنف والإرهاب في المجتمع على نحو غير مسبوق، لأسباب كثيرة، يجعل العرض في مقدمتها التربية الخاطئة للأبناء، فهي القنبلة الموقوتة التي تهدد الصغار والناشئة والشباب، وتصل المسرحية من خلال أحداثها المتصاعدة إلى حقيقة مؤسفة، هي أنه “في بيوتنا البسيطة تنمو بذور العنف والإرهاب”، إما بسبب قسوة الآباء، أو بسبب تدليلهم المفرط للأبناء. يلجأ العرض إلى تقنية التفكيك والتركيب والمشاهد المبتورة المتلاحقة لتجسيد مراحل الهلاك المتعاقبة في حياة البشر منذ صغرهم مرورا بمراهقتهم وشبابهم ثم زواجهم وإنجابهم وتعاملهم مع أبنائهم الذين يأتون انعاكسا لتعامل آبائهم معهم. يكثف العرض الضوء على أن التربية القاسية للفتيات، والمعلومات الدينية الخاطئة والمتطرفة، والخوف الزائد على الحد من احتمالية كذبهن وتعرّيهن وانحرافهن وتعاملهن الخاطئ مع الذكور، تقود في النهاية إلى نشوء شخصيات نسوية غير سوية، تفعل في الخفاء أمورا مريبة بين كذب وسفور وعلاقات مفتوحة. وكذلك، في المقابل، فإن التدليل المفرط تنجم عنه شخصيات مستهترة، ونتائج سلبية مشابهة. العرض ينبني على الحركة السريعة إلى درجة اللهاث، فالمواقف الدرامية قصيرة، مكثفة، متلاحقة، ينحسر فيها الكلام تبرز المسرحية أن بذور العنف والإرهاب هي نتيجة غلظة الآباء في تعاملهم مع أبنائهم، بالتخويف والترهيب والكي بالنار في سن صغيرة، وحتى الدين السمح فإنه يتم تلقينه للأطفال من خلال الترويع وقصص التعذيب في الآخرة وفي القبر وما نحو ذلك، بدلا من تحبيب القلوب في العقيدة الإيمانية النورانية. ويقترح العرض قيمة إيجابية، هي تعامل الآباء مع أبنائهم كأصدقاء منذ الصغر. إلى جانب هذا الخيط الأساسي، تستعرض المسرحية من خلال نثاراتها المتفرقة الكثير من القضايا والمشكلات المجتمعية، منها: عزلة الشباب عن حركة الحياة وانخراطهم في وسائل التواصل الافتراضية وهوسهم بتكنولوجيا الاتصالات والإنترنت. من المشكلات التي يرسمها العرض كذلك بلغة شيقة من خلال الومضات الدرامية الجذابة الخفيفة، الكوميدية والاستعراضية في بعض الأحوال: الإدمان، وظاهرة العنوسة، وعدم تحمّل المقبلين على الزواج التبعات الجدية لهذه العلاقة، وانتشار الفساد والمحسوبية في سائر المجالات والقطاعات، ولجوء المحبطين إلى السفر للخارج والهجرة غير الشرعية، وغيرها. طاقة الحياة تطرح مسرحية “خلل” الطاقة الشبابية بوصفها وقودا فاعلا بإمكانه تحريك الحياة ودفعها إلى الأمام، ويأتي هذا التصوّر من خلال فنيات المسرح وجمالياته “الشابّة” كغاية بحد ذاتها، فضلا عن دعم تلك الآليات للفكرة المضمونية القائلة بأن الشباب ثروة مدّخرة، وثورة كامنة تحت الرماد. ينبني العرض على الحركة السريعة إلى درجة اللهاث، فالمواقف الدرامية قصيرة، مكثفة، متلاحقة، وفي داخل كل مشهد ينحسر الكلام والحوار حد الامّحاء، لتأتي الرسالة رامزة، هامسة، وينوب التعبير الجسدي والاستعراضي والإشاري والإيمائي عن الحكي والإفضاء والاسترسال، بما يُكسب الدراما مصداقية وقدرة على التفاعل مع الحضور، وسط حالة التفكيك السائدة. تعكس المسرحية قدرات تمثيلية متميزة لفريق العمل من الشباب، الذين تمكنوا ببراعة من التعبير عن مراحل عمرية مختلفة، بدءا من الطفولة مرورا بالشباب وصولا إلى السن المتقدمة، وجاءت الملابس والماكياج والأقنعة ملائمة لتلك التحولات التي بدت طبيعية في سياق استعراض رحلة الحياة، مع سينوغرافيا مرنة تستوعب مستجدات الزمان والمكان. يحتوي العرض على مجموعة استعراضات بلغت فيها تقنية الحركة ذروتها، منها استعراض يصور صراع الرجال والنساء من خلال لعبة جذب الحبل، واستعراض المهاجرين فوق قارب غير شرعي تتقاذفه الأمواج فيغرق متحطما ومحطما الآمال، وتأتي سيمفونية بيتهوفن الخامسة “ضربات القدر” لتبرز الطقس العام الذي تحتبس فيه الأنفاس على طول الخط، وتضمحل الأنوار لصالح أبجديات الظلام. مسرحية “خلل”، قراءة لاقطة لإحداثيات المجتمع المصري الذي يعاني الشقوق ومواضع الخلل في سائر الدوائر، ورؤية جمالية لا تخلو من إبهار وتشويق ودماء فنية جديدة.
مشاركة :