قبل أيام حضرت العرض الأول للفيلم المصري "كدبة بيضا". الذي تدور أحداثه حول شاب، "أحمد" مهاجر إلى أمريكا وله خطيبة أمريكية "آشلي". تبدأ الأحداث في مطار القاهرة، حيث يصل "أحمد" و"آشلي" إلى مصر، للتعرّف على عائلته وإقامة حفل الزفاف، ثم العودة مرة أخرى إلى أمريكا. نلاحظ اختلاف الثقافات الأمريكية والمصرية في عينَيْ "آشلي" التي تستغرب ما تراه في الشارع المصري، من نفايات إلى انعدام ثقافة الأمان أثناء القيادة، حتى العلاقة الجسدية بين الرجال المصريّين الذين يركبون «فيسبا» وأجسامهم متلاصقة بحميمية وأريحية كأنهم في علاقة مثلية. مبدئيًا، ليس هناك ما يُسمى بـ"الرجل المصري"، ولا "الرجل" في العموم. شاركغرد ترتدي "آشلي" الحجاب وتتسوق مع والدة "أحمد"، رغم أن أخته نفسها غير محجبة، في محاولة لصرف الأنظار عنها كأجنبية في الشارع. لكن لكنتها وتصرفاتها تفصحان عن ذلك، فنرى بائعة الفاكهة وهي تُدللها، وترقص معها في مرح. تتعقد الأحداث عندما نكتشف أن "أحمد" العائد من أمريكا مؤقتًا بهدف الزواج وسط عائلته، يخطط للإقامة في مصر، وعدم العودة إلى أمريكا، دون علم "آشلي"، التي تكتشف كذبته في يوم الزفاف، وتنفصل وتنوي العودة لأمريكا. هل يتخلى الرجل المصري عن "أبويته"؟ مبدئيًا، ليس هناك ما يُسمى بـ"الرجل المصري"، ولا "الرجل" في العموم. فالرجولية تُعرّف جندريًا بأنها مجموعة صفات ارتبطت اجتماعيًا بالذكور. ولنكون أكثر وضوحًا، ليست جميعها صفات حميدة، إذ ترتبط في كثير من الأحيان بالسيطرة والعنف والحمائية والوصاية، لكنها على رغم ذلك، ليست مُطلقة ولا أحادية؛ أي أنها مُتغيرة وفقًا لعوامل كالطبقة والعرق والسن وغيرها. كما أن الرجولية مُصورة اجتماعيًا على أنها المسار الوحيد لكل الذكور، بحيث يكون الشخص غير المنصاع لهذا التصور الاجتماعي، منبوذ وموصوم. في كتابها "أن تعيش وتموت كرجُل|، تقول باحثة الأنثروبولوجي، فرحة غنّام، أن الرجولة المتصورة في ذهن المصريين عن أنفسهم، تجبر العديد منهم على تصرفات بعينها حتى لا تهتز صورته عن نفسه "كرجُل"، ولا يتم نبذه اجتماعيًا. فمثلًا: في كتابها الذي كان محتواه عن الرجولية في منطقة "الزاوية الحمرا" بالقاهرة، تقول إن المجتمع يوصم الرجال الذين لا يتصرفون "كرجال حقيقيّين"، أي لا يتورطون في العنف، أو الحمائية، أو محاولات فرض السيطرة، وكذلك في التكفل المادي بالمنزل. شخصية "أحمد" هي شخصية مُركبَة ذات أزمة رجولية واضحة. فنجده ذلك الشاب "الكوول" الذي يعيش في أمريكا سنتين دون زواج مع صديقته "آشلي"، ولا يهتم بأشياء قد يُعيرها الرجال اهتمامهم، كالانفتاح الجنسي الذي لا يتقبله الرجال العرب من النساء العربيات تحت وهم "اختلاف الثقافات"، هو نفسه "أحمد»"الذي يُعنّف أخته في الشارع، ويسحبها إلى المنزل، عندما يراها مُمسكة بيد شاب على الكورنيش. يبرر "أحمد" تصرفه لخطيبته بأن "الثقافات مختلفة" بين أمريكا ومصر. ففي أمريكا، تعيش الشابات مع رجال خارج إطار الزواج، بينما تتقيد المصريات بقيود السُمعة والأخلاق إن دخلن علاقات عاطفية، ويوصمن إن دخلن علاقات جنسية. لكن "آشلي" تتغاضى عن ازدواجية خطيبها، الذي يظهر في المشهد التالي مُبررًا لأخته سبب غضبه وتعنيفه لها، بأنه "خايف عليها". يُنصّب "أحمد" نفسه "مديًرا للعلاقات" في حياته الشخصية والعائلية، بمنظور أبوي. فهو يُقيد علاقات أخته العاطفية، ويختار لشريكته محل إقامتها، في مصر، دون إخبارها، بدافع الحب. هل "الحب" يغفر "الكذب"؟ عندما تكتشف "آشلي" كذبة خطيبها، تغادر الزفاف، وتقرر العودة لأمريكا. لكنه لم يستسلم. يعود "أحمد" للتبرير، فيقول إنه كذب عليها لأنه يحبها، وخاف أن يخسرها. لكنه، وعجبًا، لم يخف من خسارتها عندما تكتشف كذبته. يتصرف "أحمد" كما لو أنه في العلاقة بمفرده، فقد كانت القرارات مشتركة، لحين قرار العودة إلى مصر الذي كان فرديًا وسلطويًا. يحاول كذلك أن يعوّض "آشلي" عن حلمها في ستوديو اليوجا بأمريكا، فيشتري ستوديو "يوجا" لها في مصر، محاولًا بأنانية، استبدال حلمها، بحلم مشترك يجمع بين رغبتها في تأسيس استوديو لليوجا، وبين رغبته في الإقامة في مصر. نُلاحظ اختفاء "فرق الثقافات" في المشاهد الأخيرة، وهو ظهر جليًا في المشاهد الأولى. حين بدأ الضغط على "آشلي" من العائلتين حتى تعود إلى خطيبها النادم على كذبته البيضاء. فالجميع يضغط عليها، ويبتزها بأنها لن تجد رجلًا يحبها مثل "أحمد". يحثونها على الرضا بالأمر الواقع كما عهدنا مع عائلات النساء اللاتي قررن الانفصال عن أزواجهن في مجتمعاتنا. فتارة يكون الضغط باسم الحب والغفران، وتارة يكون بالترهيب من لقب "مطلقة"، وأحيانًا كثيرة يكون بالابتزاز أن هذا الزوج هو عائل الأسرة. بعد محاولات مستميتة من أهلها وأهله، تغفر «آشلي» لخطيبها كذبته، وتنتقم منه في الوقت ذاته. فتقوم باختطافه بمساعدة أخيه، وتعصيب عينيه، ليجد نفسه فجأة في حفل الزفاف المنتظر، وتقول له بانتصار أنه عندما قرر إقامتهما في مصر، كان أشبه بعملية اختطاف لها من عالمها، لإجبارها على العيش في عالمه. وأنهما الآن متساويان: (1/1). بين "الكذب" ورفاهية "الصراحة" على جانب آخر، أكاذيب الرجال، ليست كأكاذيب النساء. فالرجال يكذبون، ويبررون. أما النساء، فمجرد أن يتم تصنيفهن ككاذبات، حتى تُفقد الثقة بهن كليةً، وقد تتدمر حيواتهن تبعًا لذلك. في الفيلم المصري "حب وكبرياء"، إنتاج عام 1972، تصارح نجلاء فتحي زوجها محمود ياسين، في ليلة زفافهما، بأنها تزوجته لكنها تحب رجل آخر. تظل البطلة في محاولات جاهدة لتتجاوز هذا الاعتراف، لكن زوجها يعاملها معاملة سيئة لأنها "كذبت" عليه. لم يشفع لها حملها منه في أن يغفر لها كذبتها، أو بالأحرى "صراحتها"، حتى يتدخل أخوها كطرف ثالث وتُحل الأزمة بعد سيل اتهامات في السلوك وإهانات استمر طول مدة الفيلم. تحل "جيهان فاضل" تلك المُعادلة في فيلم "سهر الليالي"، إنتاج عام 2003، وكانت تقوم بدور زوجة غير سعيدة جنسيًا مع زوجها، ويلوح في أفقها رجُل آخر. تقاومه مرات عدة، لكنها تستمتع برغبته فيها، ويثيرها جنسيًا. وحين تجمعهما لحظة خاصة قد مارسن فيها جنسًا خارجي على ما يبدو، تقرر العودة إلى منزلها والإعراض عن التجربة كلها. عندما يعترف زوجها بخيانته لها، تحتضنه وهو يرتجف، وتقول في صوت اختبر الأمر مسبقًا: "كلنا بنغلط، وكلنا لازم نسامح". لكنها كانت تعرف جيدًا أنها لا تملك رفاهية الاعتراف مثله. فتتجاوز عن الأمر، وتستكمل حياتها معه في هدوء. أقوال جاهزة شاركغرد أكاذيب الرجال، ليست كأكاذيب النساء. الرجال يكذبون، ويبررون. أما النساء، فمجرد أن يتم تصنيفهن ككاذبات، حتى تُفقد الثقة فيهم كليةً، وقد تتدمر حيواتهن. شاركغردتغفر "آشلي" لخطيبها كذبته، وتنتقم منه في الوقت ذاته. فتقوم باختطافه. شاركغرد"أحمد" الشاب "الكوول" الذي يعيش في أمريكا سنتين دون زواج مع صديقته «آشلي»، ولا يهتم لأشياء قد يُعيرها الرجال اهتمامهم، كالانفتاح الجنسي الذي لا يتقبله الرجال العرب من النساء العربيات تحت وهم "اختلاف الثقافات"، هو نفسه "أحمد" الذي يُعنف أخته في الشارع."التطهّر" كشرط لاستمرار العلاقات تبدأ علاقاتنا بشركائنا عندما نقرر التشارك. وبقرار المشاركة هذا، نعرف جيدًا أن حيواتنا وقراراتنا سنفكر فيها بشكل مختلف. فإن لم نقرر مع الأطراف الأخرى، فعلى الأقل نفكّر في تبعات تلك القرارات عليهم/ن. وليس صحيحًا أننا مجبرون على البوح بتفاصيل حياتنا جميعها إذا قررنا الارتباط. فهناك بعض التفاصيل التي تظل شخصية وفقًا لتفضيلاتنا. هناك خلط شائع بين البوح بما قبل قرار الارتباط، وبين القرارات المشتركة أثناء الارتباط. فأغلبنا سمع أن الارتباط يصحبه كشف للماضي، ولكل تفاصيله حتى لا يُفاجئ الأطراف الأخرى بما لا يفضلونه. وهذا صحيح، إن كانت تلك التفاصيل ستؤثر على العلاقة واستقرارها، كصحيفة الحالة الجنائية مثلًا.أما الكشف عن العلاقات السابقة بهدف التبرؤ منها، أو التطهر من الماضي، فهذا لن يُفيد إلا في أن نُرضي «الأنا العُليا»، أو الـ«إيجو» للأطراف الأخرى. وهذا ليس عيبًا في ذاته، ولكن العيب أن يكون هذا التطهر شرطًا جوهريًا لاستمرار العلاقة. هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. غدير أحمد - ناشطة نسوية مصرية، وباحثة متخصصة في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي. كلمات مفتاحية اختلاف ثقافات حب سينما علاقات عاطفية كذبة بيضاء مصر التعليقات
مشاركة :