بعثت اللجنة الخاصة بتنفيذ القرارات الفلسطينية بشأن مستقبل العلاقة مع إسرائيل برسائل ضعيفة الصدى فيما يخص فك الارتباط مع إسرائيل وإنهاء التعاون الأمني معها، في خطوة لا تتجاوز حدود المناورة لاستعادة زمام المبادرة من حركة حماس. نجحت السلطة الفلسطينية في نزع الكثير من المخالب السياسية عن المجلس المركزي، كذراع تشريعي مهم في هيكل منظمة التحرير، عندما حوّلته أداة لإيصال رسائل داخلية وخارجية، أفقدته الكثير من ملامح القوة المعنوية التي حافظ عليها خلال السنوات الماضية، بعد أن زجّت به السلطة الفلسطينية وسط معركة، الكل يعلم أنها مليئة بالتجاذبات والمناورات. حملت القرارات التي اتخذها، مساء الاثنين، الكثير من الدلالات التي تؤكد أنه مجلس فتح وليس مجلسا لعموم القوى الفلسطينية، لأنه تبنى مواقف تنسجم مع الخطاب الفصائلي الذي ترفعه الحركة في مواجهة خصومها. وأعاد على المسامع مفردات أعلن عن غالبيتها في اجتماعات سابقة، وهو يعلم أنها تأتي في خضم مواجهة ساخنة مع حركة حماس، حتى لو انطوت على مضامين أخرى مُوجهة إلى كل من إسرائيل والولايات المتحدة. كرّر المجلس المركزي قرارات تتعلق بتحديد العلاقة مع إسرائيل وأخرى تخص المصالحة الوطنية، وترك للرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) ومعه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير متابعة القرارات دون سقف زمني لتنفيذها، وهي حيلة أعلن عنها في ختام الاجتماعات للتلويح بها وليس لتأخذ مسارها نحو التنفيذ. كما أن التنبيه إلى إنهاء الالتزامات والاتفاقات مع سلطة الاحتلال، وفي مقدمتها تعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، من المستحيل تطبيقه على الأرض، لأنه يؤدي إلى إلغاء السلطة وخروج قادتها إلى الشتات، وأبومازن يعرف أن توقيع اتفاق أوسلو مع إسرائيل عام 1993 كان نقلة نوعية في مسيرة الكفاح الفلسطيني. علاوة على أن التشديد على وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، أضحى ورقة لم يعد مجديا الحديث عنها، في وقت بلغ فيه التعاون بين أجهزة السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال درجة عالية، وفض التنسيق يقود إلى إلقاء القبض على كثير من قيادات حركة فتح التي تعيش وتتحرك داخل الأراضي القابعة تحت السلطة النهائية للاحتلال. تمثل المتاجرة السياسية بالمجلس المركزي طريقة غير صائبة سلكتها قيادة السلطة، فقد قاطعت الحركتان الشعبية والديمقراطية اجتماعات رام الله، ولا تزال حماس والجهاد الإسلامي خارجه، مع ذلك جيّرت فتح المجلس لمصلحتها، وحولته إلى نسخة شبيهة بلجنتها المركزية، التي أصابها الخمول، عقب توالي الخلافات التي عصفت بجسدها في الفترة الماضية. كان المجلس المركزي أداة مهمة يمكن الاستعانة بها عند المحكات الرئيسية في مواجهة الاحتلال أو القوى الفلسطينية الشاردة، لكن كثافة الاحتكام إليه وتوظيفه في أوقات تبدو فيها فتح ضعيفة، قلل من دوره وجعل القرارات التي تصدر عنه في سياق اللامعقول. أبومازن لا يملك قدرة على استئناف محادثات جادة مع إسرائيل، ولا توجد رؤية أميركية متبلورة للتسوية السياسية يمكن الحوار بشأنها لذلك لم تحدث قراراته صدى سياسيا في الأوساط الفلسطينية، وجرى التعامل معها على أنها تحصيل حاصل أو مناورة يريد بها الرئيس أبومازن تجديد حضوره في المشهد الإقليمي، فالرجل الذي زار سلطنة عمان قبل أيام من زيارة تاريخية قام بها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وتلقى رسائل إيجابية تشي بإمكانية تحريك المفاوضات معه، من الصعوبة أن يخاطر بتبني مواقف تصعيدية، وهو يدرك أن باب الأمل لم يوصد تماما. تفضي المناوشات المحتدمة بينه وبين حماس، بعد أن اتخذت مقاطعها شكلا شخصيا، إلى المزيد من الخسائر السياسية للقضية الفلسطينية، فالرئيس أبومازن أراد إثبات أنه لا يزال صاحب شرعية، لكنه تجاهل أنها ليست بحاجة إلى التدليل من خلال مواقف عنترية يمكن أن ترتد عليه سلبيا، وتضعف الثقة الباقية من جانب المجتمع الدولي، الذي لم يؤد تواصل بعض أطرافه مع حماس إلى الكف عن الحوار مع أبومازن. لم تشكّك الجهات التي تجري اتصالات معلنة أو مستترة مع حماس، في شرعية السلطة الفلسطينية، حتى لو كانت القيادة غير منتخبة حاليا، وتقوم بتسيير الأمور بالتراضي والتفاهم، لكن المجازفة بتهديدات رمزية متتالية تجاه إسرائيل والولايات المتحدة، تجلب متاعب للسلطة، أقلها تجميد الأوضاع الحالية، وبقاء أبومازن ورفاقه في معسكرهم الضيق في رام الله، والذي تزداد تكاليفه السياسية يوما بعد يوم. تؤكد المعطيات المتوافرة أن أبومازن غير قادر على استئناف محادثات جادة مع إسرائيل، ولا توجد رؤية أميركية متبلورة للتسوية السياسية يمكن الحوار بشأنها، فإذا كانت إسرائيل تكتسب أرضا عربية جديدة، وصفقة القرن ملعونة ومن يقفون خلفها تحركهم أهواء مشبوهة، فليبحث أبومازن ورفاقه عن جهة محايدة، كأن التدخلات الأميركية السابقة كانت تتسم بالموضوعية، أو تدخل جهة أخرى سوف يكون محكوما بقدر أوفر حظا. تعقيد الأزمة لا حلها Thumbnail كرست قرارات المجلس المركزي الفلسطيني الصورة القاتمة، لأنه لم يفتح أفقا للخروج من المأزق الذي تعاني منه السلطة الفلسطينية. وتبنى مواقف تعمل على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، لأن قيادة فتح عاجزة عن التعامل السياسي مع إسرائيل، وضاعفت من سقف مناوراتها مع الولايات المتحدة، وارتاحت إلى الانسداد الذي دخلته عقب الترويج لصفقة القرن، والتي لم يشك أحد في أنها ضد المصالح الفلسطينية، وتصب في صالح إسرائيل، وهو المنهج التاريخي الذي تتبناه واشنطن منذ اهتمامها بعملية التسوية قبل حوالي أربعين عاما. إذا كان المجلس المركزي يرى أن الأوضاع في غزة بحاجة إلى حل سياسي وضرورة إنهاء الانقسام، فلم تنطق أي جهة بغير ذلك، والموقف الذي تبناه بشأن وقف هذه المسألة يضع الكرة في جعبة حماس التي أدمنت ابتعاد السلطة الفلسطينية عن غزة، ما يعني أن الحديث عن فرض شروط ترفضها حماس، يبقيها في القطاع بلا منازع، ويلبي تطلعاتها، ويحقق أمنيات إسرائيل، ويحرم السلطة من استرداد هيبتها، لأن الحوار بشأن فلسطين أخذ طابعا إنسانيا. ترمي التحركات التي تقوم بها بعض القوى الإقليمية والدولية إلى وضع حد للمأساة في غزة، والحفاظ على درجة من الهدوء مع إسرائيل، وهما ملفان تسببت تصرفات قيادة السلطة في أن يخرجا عن طوعها، بعدما تخلت عن معالم الرشد والحنكة والحكمة التي كانت تحكم تصوراتها، ووجدت نفسها في أزمة مستحكمة يحتاج الخروج منها إلى تقديم تضحيات ملموسة. تشير التوجهات التي يسير عليها أبومازن إلى أنه قد يضطر إلى القيام باستدارة كبيرة، فالرجل الذي ظل يروّج أنه خليفة الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبوعمار) فقد الكثير من بريقه السياسي ولم يستطع الحفاظ على الثوابت التي امتلكها سلفه في الإمساك بخيوط كثيرة، ومالت تحركاته نحو الانفعال وتصفية الحسابات. أخفقت جميع الضغوط التي مارسها على خصومه، داخل فتح ومع حماس، في أن تجبرهم على الركوع تحت قدميه، وأدى الارتباك الحاصل في كثير من سياساته إلى زيادة مساحة الفجوة، حتى وصلت إلى عدد من حلفائه، وامتدت إلى قوى عربية تقف تقليديا إلى جوار فتح، وباتت مضطرة إلى توطيد العلاقات مع عدد كبير من منافسيه، خشية أن يرحل أو يختفي في أي لحظة، بحكم السن والمرض ومواجهة مصير أبوعمار، أو الهروب إلى الأمام. تقود التحركات التي يقوم بها أبومازن إلى خيارين، فإما يعيد ترتيب أوراقه بدقة ويتعامل على أنه القائد والحكيم، ويعيد تعبيد الطرق السياسية مع خصومه، وإما يقلب الطاولة ويعلن الخروج من المشهد الفلسطيني، كرها أو طوعا، وهي النتيجة الطبيعية التي تفسر تناقضاته، لكنها لن تنهي الارتباكات الطاغية على القضية الفلسطينية. إقرأ أيضاً: بيان "المركزي" الفلسطيني وحمولته الزائدة
مشاركة :