الشعوب التي تقف ثابتة على الأرض لا تهزّها الرياح ولا تخيفها «دندنة طبلة الحراب» كما عبر الشاعر الكبير خلف بن هذال، شعوب تستحق الاحترام بجدارة، وتستحق العيش الكريم أيضا بجدارة، هذه الشعوب لا تتلون ولا تتبدل مهما تقادم بها الزمن أو تبدلت أحوالها، تجدها منتشية بالاقتراب من كل منجزات أوطانها، ومتفاعلة مع كل المتغيرات مهما كانت قاسية ومؤلمة، فهي صبورة ومتأنية تنظر دائماً إلى الأمن والاستقرار كـ «ذراعي توازن» لكل المتغيرات الطارئة، لنقل أنهما المعياران اللذان يقاس بهما إيقاع الحياة، ومن خلالهما تحسم قراراتها بمسؤولية كاملة. «شعوب الخليج» تعلمت معنى الحياة واستلهمت تجاربها بوعي ودراية، حتى لو كانت تجاربها تلك نسبة بحواضر العالم قصيرة، فإن فلديها ما هو أعمق من تقلبات السياسة وبصمة الاستعمار الذي لم يترك في ذاكرتها سوى ملامح جرفها النسيان مع تقادم الأجيال، ثمة تجارب أخرى تاريخية عميقة متوارثة تؤكد على حضورها باستمرار لمجتمعات تعلمت الانصات لكل خفقة طير وسحابة عابرة وحركة رمل، يحدثك الواحد منهم عن مآلات الأشياء وعن الفصول وتبدل الأنواء، حكمته سديدة وبالغة وأمثلته حاضرة ومؤثرة، وهي الرديف المباشر للقيم التي يحملها ويتمثلها في كل تفاصيل حياته، وتعد القاعدة الضابطة لها، لديه تاريخ طويل يحفر في عمق الزمن لحضارات سادت ثم بادت إلا أنها تركت حكمتها وورثتها للأجيال التي ظلت تستعيدها وتستلهمها كابرا عن كابر، فللصحراء الجرداء المسكونة بالخوف أعمق تأثير ليس على أخلاق الناس وطبيعة تعاملهم فحسب، بل على مشاعرهم التي أصبحت رهيفة حتى باتت توقع كلماتها على موازين الشعر، صحراؤهم الملهمة التي يرونها ممتدة في عمق المدى تخلق لهم عالماً سحرياً ملبوساً بالأخيلة تتراءى كالجنيات ترقص فوق بحر من السراب، لتبدو موغلة بالوحشة، تشي بالعطش والجوع، والموت والضياع مفازات من خلفها مفازات، وللسماء التي قلما تلامس شغافها سحابات ماطرة، حكمة بالغة علمت الناس إيقاع فصولها، وعلمتهم الانتظار، فمن لغة الصحراء إلى الجبال الجنوبية التي نمت روح التطلع للصعود إلى قممها، واكتشاف ما هو أسفل منها من الجهات الأخرى المقابلة فباتت في تطلع مستبد إلى من يخرجها من قعر أوديتها ومعاناتها، ويشق لها الجبال الشم بكل قوة واقتدار، لتتسلل منها إلى العالم المجهول، إلى الوجوه التي لونتها البحار بزرقتها من أبناء الخليج الذين وشمت أذهانهم بتباريح الغوص وعذابات الفقد. كل هذه التجارب «المرّة» ألقت بظلالها على أرواح الناس، كما ألقت على عقولهم بصيرتها وغذتهم بحكمتها، ليستشعروا معنى الأمن والاستقرار الذي لا يمكن أن يراهنوا عليهما، كل هذا مهر شعوب الخليج بـ«علامة فارقة» ولغة مشتركة هي الالتفاف حول قادتهم الذين صبروا وصابرو معهم، يشدّون من أزرهم منذ البدء حتى فجر الله من تحت أقدامهم ينابيع الرزق، فباتوا محط حسد بعض من كانوا يتنعمون برغد عيش لا تعرف مثله دول الخليج الذين رزحوا تحت ثقل الحياة ووعورتها، ومع ذلك لم ينتابهم حسد، وكلما تذكروا ما أنعم الله به على غيرهم رددوا: «الشام شامك إذا الزمن ضامك»، لم تمح من ذاكرة النجديين (أهل نجد) رحلاتهم إلى الشام ومصر وإلى أبعد من ذلك، يحملون فوق أكتافهم عناء الطريق ووحشة الفلاة طلباً للقمة العيش. اليوم، وبعدما من الله علينا ببركات من عنده واستقرت قلوبنا وأبدل الله حياتنا من بعد الضيق سعة، ومن بعد الخوف أمنا، يأتي من يؤلب علينا ويحاول شق صفوفنا ونزع أيدينا من قادتنا، قديما قبل ثورات الخريف العربي وتحديدا قبل انقلاب صدام حسين على قيم القومية العربية بغزوه الغاشم للكويت، كنا نبحث عن كتب الثورجية من قوميين واشتراكيين أو ممن ألبسوا أثوابا واسعة فضفاضة لا تليق بهم، نتبادل كتبهم ومذكراتهم التي لم تطبع ودواوينهم التي تفوح منها رائحة البارود والنار مأخوذين بهم، وكانت كل سهامهم تصب في عنوان واحد «الرجعية العربية» يقصد بها ما كان يسمونها بـ «ممالك النفط»، لم نكن نعي جيدا أن دوافع الحقد والحسد هي البوصلة التي كانت تسيرهم، حتى التقينا ببعضهم ضيوفا حلوا على جنادرية 1987 و1988، إذ لم يمنعهم حسدهم ومقتهم من أن يلبوا الدعوة أملاً في «حفنة دراهم» توضع في جيوبهم كمتسولين، ومن خلفهم جوقة من شبابنا المريدين يلتصقون بهم بكل سذاجة، ينحنون لهم بكل إكبار وإعجاب، فلا يقابلونهم إلا بفوقية واحتقار، بعضهم ما ان استقل الطائرة متجها إلى بلده حتى بادر بكتابة مقالات قبيحة مستعرة بالشتيمة والسخرية من بلدنا وكرامة الذين أحسنوا وفادتهم، فبدا مثلهم مثل كافور الإخشيدي، هؤلاء كانوا يتلمظون لسقوط أوطاننا في لعنة الحروب وويلاتها، نذكر أنهم كانوا الأشد فرحا بغزو صدام للكويت، أين هم الآن وأين نحن؟ ماذا فعلوا لمن كان يشدّ من أزرهم ويؤويهم؟ أينهم من ثورات الخريف العربي، أليسوا أول من نادى ودعا للانقلاب على كل النظم العتيقة البالية وحرض شبابنا على اتخاذ مواقف ثورجية عدائية؟ ألم تكن الجماعات الإسلاموية المتطرفة أول أعدائهم، لمَ تركوا لهم الساحة ونفضوا أيديهم عن بؤر الصراع وتواروا في عواصم أوروبا ليمارسوا ما تعودوا عليه، أو ليكتبوا تقارير مدفوعة الثمن ويعملوا طابوراً خامساً لكل من سيدفع لهم ثمن لقمة عيشهم؟ اليوم، اتضحت الرؤية لشعوبنا بعدما سقط على إثرهم «الإخونج» الذين كانوا ينازعونهم أحجار اللعبة، ولن تستبعد أن يتحالف القوميون والاخونج المكسورون برعاية إيرانية كاملة، ومع ذلك فقد طويناهم مع الماضي البائس ودفنا ذاكرتهم، وسنردد دائما مقولة شاعرنا النجدي أعشى قيس: كَناطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً ليِوُهِنَها * فَلَمْ يَضِرّها وأوْهى قَرْنَه الوعِلُ * كاتب وروائي سعودي. @almoziani
مشاركة :