فجعت فرنسا ظهر أمس بعمل إرهابي لم تعرف مثيلا له منذ تسعينات القرن الماضي، أوقع 12 قتيلا بينهم رجلا شرطة، وأربعة جرحى في حالة الخطر الشديد، فضلا عن 7 جرحى آخرين. وأكد وزير الداخلية برنار كازنوف، عقب اجتماع أمني استثنائي في قصر الإليزيه برئاسة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، أن 3 مهاجمين شاركوا في الهجوم صباح أمس، بعد تضارب أولي حول عددهم. وفي عملية سريعة استمرت حوالى عشر دقائق، دخل رجلان ملثمان الى البناية رقم ستة في شارع نيكولا - ابير بالدائرة الباريسية الحادية عشرة (شرق) حيث يوجد مكتب محفوظات مجلة «شارلي ايبدو» الساخرة. ولكن عندما عرف الملثمان ان هذه البناية ليست مقر المجلة حيث يوجد الطاقم التحريري سرعان ما اقتحما المبنى رقم عشرة في الشارع ذاته. وأشار خبراء أمنيون إلى أنه من الواضح أن الشخصين اللذين ظهرا في الفيديو «يتمتعان بتدريب عالي المستوى»، الأمر الذي يتبدى من كيفية الإمساك بأسلحتهما وبالهدوء الذي ميز تصرفهما. وأفاد عاملون في القسم الفني من المجلة الساخرة بأن الرجلين أخطآ بالعنوان ودخلا القسم الفني بداية، ثم انتقلا بعدها إلى قسم التحرير الواقع على بعد أمتار من الموقع الأول، وهناك صعدا إلى المكاتب وفتحا النار باتجاه الصحافيين الموجودين. وأفادت صحافية عاملة في المجلة، تدعى كورين راي، بأنه بعد أن هددها المسلحان منحتهما الرقم السري لدخول المبنى. وقتل من هؤلاء أربعة بينهم رئيس التحرير وثلاثة من كبار العاملين في المجلة. وكان لافتا أن الرجلين ارتديا الثياب السوداء وغطيا وجهيهما بقناع وحملا رشاشات نوع كلاشنيكوف وجعبة يظن أنها للذخيرة. ومع اقتحام المسلحين اجتماع تحرير المجلة الاسبوعي في الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة صباحا، ابيدت هيئة تحرير «شارلي إيبدو»، مع مقتل اكبر رساميها وهم شارب وكابو وتينيوس ولينسكي، الأكثر شهرة في فرنسا، اضافة الى الخبير الاقتصادي بارنار ماريس الذي يعمل ايضا في اذاعة فرنسا الدولية. وبحلول الساعة الحادية عشرة ونصف تلقت الشرطة استغاثة من اطلاق نار في مقر المجلة حيث سارع رجال الأمن الى الموقع ولكن المسلحين استطاعا أن يفرا في سيارة كانت بانتظارهما. وهجوم أمس الذي شغل المسؤولين الفرنسيين ورجال السياسة والإعلام بالإضافة إلى الشارع العام، والذي وصفه هولاند بـ«العمل الإرهابي الهمجي»، استهدف مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة، وأوقع رئيس تحريرها وثلاثة من كبار صحافييها قتلى. وجاءت ردود الفعل الأولى على العملية تعلن التضامن الشامل مع المجلة، بدءا بالرئيس الفرنسي والحكومة، وصولا إلى الأكثرية اليسارية والمعارضة اليمينية. وأعلنت الحكومة اليوم يوم حداد رسمي في كافة أرجاء البلاد. كذلك سارع مسؤولو الجالية المسلمة في فرنسا، وعلى رأسهم الدكتور دليل بوبكر، عميد مسجد باريس الكبير ورئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، إلى {التنديد الشديد} بالعملية التي وصفوها بالإرهابية. ونبه رئيس الجمهورية السابق نيكولا ساركوزي إلى ضرورة عدم «الخلط» بين من ارتكبوا هذه الجريمة وبين مسلمي فرنسا الذين تتخوف أوساطهم من الانعكاسات السلبية على صورتهم ومن استغلال اليمين المتطرف لها، مما سيؤدي إلى ازدياد الشعور العنصري المعادي للعرب والمسلمين. وتزامن الهجوم مع يوم صدور كتاب بعنوان «الخضوع» لمؤلفه ميشال ويلبيك، الذي يتصور فيه فرنسا وقد وقعت تحت حكم رئيس مسلم في عام 2022. وأصابت العملية سكان باريس والفرنسيين بصدمة، إذ إن العملية التي دامت عشر دقائق حصلت في وضح النهار وداخل العاصمة، ونجح المنفذون في الفرار بعد أن ارتكبوا مجزرة بأسلحة حربية. وتبين مقاطع فيديو التقطها هاو لاثنين من القتلة وهما يعودان إلى السيارة التي كانت تنتظرهما والمتوقفة وسط شارع ضيق في الدائرة الحادية عشرة من باريس, درجة تدريب المنفذين واستعدادهم للعملية. فقد كان المسلحان يسيران باتجاهها بهدوء كامل، ثم لاحظا وجود شرطي يركب دراجة هوائية في الشارع فعادا إليه وأطلقا النار عليه، ثم عمد أحدهما إلى إطلاق رصاصة على رأسه. ولدى عودتهما إلى السيارة استعاد أحدهما فردة حذائه الرياضي التي كانت وقعت منه أرضا وانطلقت بعدها السيارة بسرعة كبيرة. وحتى مساء أمس لم تنجح الشرطة رغم «التعبئة العامة» التي فرضتها الحكومة على كل الأجهزة الأمنية في القبض على الفاعلين بعد فرارهم، ولا التمكن من توقيفهم مباشرة بعد العملية أو بعد فرارهم من داخل باريس إلى المتحلق الخارجي، حيث أوقفوا سيارة ثانية فروا بها إلى ضاحية بانتان الواقعة شرق العاصمة. ومن هناك ضاعت آثارهم. وسريعا جدا امتدت أصابع الاتهام نحو المجموعات المتطرفة خصوصا بعد أن بين شريط الفيديو أن أحد المهاجمين صرخ قبل عملية الفرار «الله أكبر.. لقد انتقمنا للنبي»، في إشارة على ما يبدو إلى الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة التي نشرتها مجلة «شارلي إيبدو» نهاية عام 2011 والتي أساءت للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وللمسلمين. إذا كان الاعتداء قد حصل في الحادية عشرة صباحا، فإن هولاند وصل إلى مقر المجلة بعد أقل من ساعة محاطا بوزير الداخلية برنار كازنوف، ورئيسة بلدية باريس آن هيدالغو. وخلال يوم أمس، تدافع المسؤولون ورجال السياسة ورجال الدين إلى موقع المجلة الساخرة للتعبير عن تضامنهم إزاء أسوأ حادثة إرهابية تعرفها العاصمة الفرنسية منذ عشرين عاما على الأقل. وفي الساعة الثانية تماما، انعقد في القصر الرئاسي اجتماع أمني طارئ برئاسة هولاند، الذي تحدث مجددا للفرنسيين في الساعة الثامنة. وبنتيجة الاجتماع، اتخذت مجموعة من التدابير الأمنية الإضافية، حيث تقرر الارتقاء بالخطة الأمنية التي تسمى بالفرنسية «فيجي بيرات» إلى حدها الأقصى، مما يعني زيادة التدابير الاحترازية وفرض الرقابة والحراسة على أماكن التجمع الكبرى للسكان من مدارس ومحطات القطار ومترو الأنفاق وأماكن العبادة، فضلا عن مقرات الصحف والوسائل السمعية - البصرية الكبرى. ومساء أمس، أعلن مدعي عام العاصمة الفرنسية أن المهاجمين صرخوا «الله أكبر»، مما يؤكد فرضية مسؤولية متطرفين عن العملية. بيد أن السؤال الذي تسعى السلطات الأمنية إلى استجلائه يدور حول معرفة ما إذا كان العمل الإرهابي «مبادرة فردية» من شخص أو أكثر أو هو مسؤولية تنظيم معين. وقال مسؤول نقابة الشرطة روكو كونتنتو أمس «يوجد احتمال لهجمات أخرى ويجري تأمين مواقع أخرى»، بعد فرار المسلحين. وخلال الأسابيع الماضية، زادت تحذيرات المسؤولين الفرنسيين من احتمال وقوع أعمال إرهابية على الأراضي الفرنسية أو ضد المصالح الفرنسية في الخارج. وأعلن هولاند أمس من أمام مقر المجلة الساخرة أن الأجهزة الأمنية «أبطلت» أربع عمليات إرهابية كان مخططا لها على الأراضي الفرنسية، لكن من غير إعطاء أي تفاصيل، مكررا بذلك ما قاله وزير الداخلية قبل أسبوعين حول المسألة نفسها. وتتخوف الأوساط الأمنية الفرنسية من تداعيات انخراط فرنسا في أكثر من عملية لمحاربة الإرهاب. ويذكر أن فرنسا قامت بعملية عسكرية واسعة لضرب المنظمات المتطرفة في مالي عام 2013، وتدخلت عسكريا في أفريقيا الوسطى عام 2014، كما كانت أول من انضم إلى التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة الأميركية لمحاربة تنظيم داعش في العراق. أما الخوف الأكبر للمسؤولين الفرنسيين فيتمثل في عودة المواطنين الفرنسيين أو المقيمين على الأراضي الفرنسية من ميادين القتال في سوريا والعراق. وتقدر المصادر الأمنية عدد الذين لهم علاقة بمنظمات متشددة مثل «داعش» و«النصرة» وخلافهما بأكثر من ألف شخص عاد منهم إلى فرنسا ما يزيد على المائتين. وأمس، تجمع الآلاف في باريس للإعراب عن التضامن مع «شارلي إيبدو» وللتنديد بالإرهاب. ومن بين كل الأصوات التي تدعو إلى التضامن وعدم الخلط بين ما حصل وبين الإسلام والمسلمين برز صوت نشاز هو صوت رئيس الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، التي دعت إلى «تحرير الكلام وتسمية الأشياء بأسمائها».
مشاركة :