تتسلل إلى أنوف المارين في أزقة المخيمات الفلسطينية وزواريبها في بيروت روائح التوابل والبهارات الهندية والإثيوبية والبنغلادشية، لا سيما في مخيم مار الياس. كما يظهر التداخل في الأزياء واضحاً، إذ أصبحت الثياب الهندية كـ «الساري» والأزياء البنغلادشية والإثيوبية والفيلبينية رائجة ومألوفة للفلسطينيين سكان المخيمات. أما أغاني الممثل الهندي الشهير «أميتا بتشان»، فأضحت أساساً في الموسيقى المفضّلة لأهالي المخيم. قلّة تعرف أن مخيّماً للاجئين الفلسطينيين يجاور وزارة التربية والتعليم في منطقة «الأونيسكو» في غرب بيروت. هناك بين أفخم أبنية بيروت وأغلاها يقع أصغر المخيمات الفلسطينية في لبنان بل وفي الشتات أيضاً. وقد اتخذت فيه معظم الفصائل ومؤسسات وجمعيات فلسطينية كثيرة مراكز رئيسة لأعمالها ونشاطاتها منذ مطلع سبعنيات القرن الماصي، ولم يشهد وقوع مشاكل أمنية فيه. فقد عاش أيام الثورة الفلسطينية، يتمتع بهدوء الحياة المدنية العادية من دون إشكالات مع الجوار، الذي يكاد يقتصر على عدد من المصانع والمدارس والسفارات ما زاد في مناعته. ولذلك أيضاً، لم يكن يوماً هدفاً لأي عدوان إسرائيلي أو الميليشيات المحلية أثناء حروبها. وبقي جواره محافظاً على الموقف الوطني والإنساني، فضلاً عن طابع المخيم المسيحي. كما اعتبر المخيم خلال السنوات الثلاث الأخيرة أحد أهم مراكز سكن مئات من العمال الأجانب والعرب من إثيوبيين، سوريين، سودانيين وهنود، ومنطلقاً إلى أعمالهم في المطاعم والفنادق والمحال التجارية والمنازل وورش البناء. عام 1952، أنشأ المخيم القائمون على كنيسة مار الياس في باحتها الخلفية لإقامة اللاجئين الفلسطينيين المسيحيين النازحين من الجليل. وتبلغ مساحته 5500 متر مربّع، ويضم حوالى 2500 لاجىء مسجّل وفق بيانات وكالة الغوث «أونروا». وخلال الحرب في لبنان خرج كثيرون من سكان المخيّم الفلسطينيين المسيحيين وأقاموا في بيروت أو في مخيم ضبية (شمال بيروت)، وترافق ذلك مع نزوح فلسطيني إليه من بقية المخيمات كتل الزعتر وشاتيلا، ليصبح ذا غالبية مسلمة، حيث لا يتجاوز عدد العائلات المسيحية فيه عشر عائلات. لكن ذلك لم يؤثر في إحياء المناسبات الدينية المسيحية كعيدي الميلاد ورأس السنة. واحتفاء بالميلاد أضاءت اللجنة الشعبية الفلسطينية في المخيم الشموع بحضور عدد من أعضائها وقيادات من الفصائل الفلسطينية والجمعيات الأهلية وأهالي المخيم، وأطفالهم الذين استقبلوا «بابا نويل» ووزّع الهدايا والحلوى على الحضور. كما انتشرت شجرات الميلاد في أزقة المخيم الضيقة، لكن الجديد في الموضوع أن عدد المشاركين في الاحتفالات توسع ليشمل مواطنين من جنوب شرقي آسيا وأفريقيا. ضرب للنسيج؟ بدأت ظاهرة استقطاب العمال والعاملات الآسيويين والأفارقة للسكن في المخيمات تأخذ منحى «خطيراً» وفق عدد كبير من السكان الفلسطينيين الذين يخشون من «ضرب النسيج الوطني الفلسطيني» كما يرددون، خدمة لمستثمرين فلسطينيين جشعين. ويقول أبو عماد شاتيلا، أمين سر اللجنة الشعبية في المخيم: «غزت منذ سنوات حركة بناء في المخيم، وتبعتها حركة استثمار في سبيل الربح والتجارة قام بها أبناء المخيم. واستسهل المستثمرن تأجير العمال الأجانب من الجنسيات المختلفة باعتبارهم فئة مغلوباً على أمرها، يسهل السيطرة عليها والتعامل معها لجهة تحديد قيمة الإيجار ورفعه حين يريد المستثمر، وإخراج المستأجر والتحكّم به إضافة إلى المماطلة بدفع بدلات الخدمات إلى الجهات المسؤولة عن تأمينها». ويضيف أبو عماد: «لقد أدى ذلك إلى تضرّر أهل المخيم الفلسطينيين، إذ استهلكت مياه الخدمة، ولم تعد طاقة التيار الكهربائي تكفي، فضلاً عن الاكتظاظ السكاني وتكدّس الفنايات، عدا المظاهر الإاجتماعية والتقاليد والعادات الغريبة وآثارها السلبية. كما رفعت هذه الاستثمارات بدلات إيجارات البيوت، ما أدّى إلى عدم تمكّن أهالي المخيم وأولادهم من الاستئجار، حيث الأفضلية للأجانب وفق منطق المستثمر. كذلك أرتفعت أسعار البيوت بصورة غير واقعية. ومثلاً تؤجّر غرفة صغيرة يتقاسمها 4 أو 5 عمّال بـ 300 دولار، والشقة بـ 700 دولار يتقاسمها عدد أكبر من الأشخاص. لم تعد أغاني فيروز والأناشيد الوطنية في صدارة الموسيقى المسموعة داخل المخيم بل اختلطت بالأغاني الهندية والأفريقية، كذلك الطعام واللباس واللغة. فلم تعد العربية وحدها اللغة «الرسمية»، بل تزاحمها الأمهرية والبنغالية وغيرهما. ويلفت أبو زياد أحد اللاجئين الفلسطينيين في المخيم، إلى «حركة توافد كبيرة من العمال الأجانب خصوصاً الأثيوبيين، يسكنون جماعياً ليوّفروا المال الذي يجنوه من أعمالهم». اختلاط وتزاحم... وجشع ويعبّر موسى، عضو في أحد الفصائل الفلسطينية، عن غضبه من كثافة العمّال الأجانب وطمع المستثمرين، بقوله: «الخصوصية الفلسطينية للمخيم مهدّدة، وهناك تزايد ملحوظ وارتفاع كبير في أعداد الأجانب لا سيما الأثيوبيين، إذ يفضّل مالكون تأجير بيوتهم لعاملات أجنبيات طمعاً بمبالغ أكبر، وهذا نوع من الجشع يجب أن نجد له حلاً كون عائلات فلسطينية عدة تبحث عن شقق ومنازل من دون جدوى». ويؤكد: «لجأ عمّال آسيويون وأفارقة إلى إنشاء مصالح في المخيم كصالونات التجميل بما يتناسب مع أزيائهم وعاداتهم». في المقابل، تكشف الأثيوبية هوشين أنها تقيم وثلاث من صديقاتها في شقة مؤلفة من غرفتين صغيرتين وحمام مشترك، «نتقاسم الإيجار فتدفع كل منهنّ 125 دولاراً، وهو مبلغ مناسب لتضمّنه نفقات المياه والكهرباء». والحالة الصحية في مخيم مار الياس ليست أفضل حالاً من المخيمات الأخرى، إذ توجد فيه عيادة واحدة للـ «أونروا» تفتح أبوابها من السابعة صباحاً إلى الثانية بعد الظهر، وتستقبل يومياً حوالى 60 مريضاً، يعاين طبيب للصحة العدد الأكبر منهم. على بقعة جغرافية صغيرة يتزاحم آلاف الفقراء من جنسيات مختلفة للسكن عشوائياً في بيوت عمودية البناء، تزداد مهمة «بابا نويل» صعوية في اختراقها سنوياً لتقديم هدايا للأطفال، ولكن في الوقت ذاته يشعر أنه من خلال زيارته هذا المخيّم زار نصف القارة الآسيوية وثلت القارة الأفريقية في غمضة عين.
مشاركة :