واشنطن – ما إن نجح البابا فرانسيس في لملمة جراح أزمة الفاتيكان مع الصين، حتى انفتح جرح جديد أعمق في الغرب، قد ينتهي إلى وضع الكنيسة الكاثوليكية على طريق أكبر أزمة تواجهها منذ ثورة مارتن لوثر قبل 500 عام. ويرصد ماسيمو فاجيولي، أستاذ اللاهوت والدراسات الدينية في جامعة فيلانوفا، في دراسة نشرتها مجلة فورين بوليسي الأميركية، أوجه هذه الأزمة وأبعادها، انطلاقا من الأخبار عن موجة جديدة من التي قام بها رجال الدين في الأشهر القليلة الماضية، معتبرا أنه مثلما حدث في إصلاح القرن السادس عشر، تظهر الأزمة الحالية على خلفية فساد مؤسساتي متفشّ. تبدو الكنيسة الكاثوليكية بحاجة ملحة إلى الإصلاح المؤسساتي، وهي تواجه تصدعات سياسية وفقهية وجيوسياسية متزايدة، يمكن أن تنتهي وفق ماسيمو فاجيولي، أستاذ اللاهوت والدراسات الدينية في جامعة فيلانوفا، إلى حالة انقسام وثورة شبيهة بما حصل قبل 500 عام عندما سكّ مارتين لوثر سنة 1517 ميلادية وثيقة الإصلاح التي قادت إلى أكبر انشقاق شهدته المسيحية الغربية على مدار تاريخها. وخطا البابا فرانسيس، القادم من أميركا اللاتينية والذي انتخب في سنة 2013 خلفا للبابا بندكتوس السادس عشر، بضع خطوات لإجراء إصلاحات في الفاتيكان الذي أضعفته فضائح الجنس والفساد، لكن اندفاعه وجد صعوبة في التحول بصورة سريعة إلى واقع، حيث يقول فاجيولي “في المرة الماضية وحاليا، تصدت المؤسسة الكنسية، وخاصة البابوية، لأهم الاقتراحات الإصلاحية في العقود التي سبقت تفجر الأزمة”. لم تمر الكنيسة بأزمة بهذا الحجم منذ الإصلاح البروتستانتي، وفق فاجيولي، الذي يعتبر أنه وعلى عكس هذا الإصلاح الذي يعود إلى القرن السادس عشر، ربما لن تفضي الوضعية الحالية إلى انقسام أو إقامة كنائس جديدة، لكن ستكون من أجل فهم حجم وتعقيد ما يجري حاليا، يقول فاجيولي إنه “علينا أن ننظر إلى ذلك الماضي بذلك البعد وإلى قطيعة بتلك الأهمية”. الاعتداءات الجنسية من أستراليا فالشيلي إلى ألمانيا ثم الولايات المتحدة فقد كشفت تقارير مفزعة عن آلاف الحالات من التحرش بالأطفال من قبل رجال الدين، حيث وثّق تقرير لهيئة محلفين كبرى تعرض ألف طفل للاعتداء من 300 كاهن في ولاية بنسيلفانيا لوحدها على مدى سبعة عقود. الموجة الجديدة من الاعترافات التي ظهرت في عام 2018 مثيرة للقلق ليس فقط لأنها كشفت استمرار الاعتداءات لكن لأنها أيضا ورطت مسؤولين كبارا في الكنيسة سواء في الاعتداءات أو التغطية عليها. وقد استقال الكاردينال تيودور ماك كاريك، مطران واشنطن السابق، في شهر يوليو عندما شاعت اتهامات موثوقة بأنه اعتدى جنسيا على قاصر وتحرش بطلبة كانوا تحت إشرافه. وكانت اعترافات ماك كاريك مقلقة بشكل خاص لأن هذا المطران السابق كان يقوم بدور قيادي في رد الكنيسة الكاثوليكية على فضيحة الاعتداء الجنسي الأخيرة من أفراد الكنيسة الأميركية في عام 2002. وفي أواخر شهر أغسطس نشر المطران كارلو ماريا فيجانو، الدبلوماسي البابوي السابق، رسالة يتهم فيها البابا فرانسيس بعلمه بالاعتداءات الجنسية لماك كاريك لسنوات والمساعدة على تغطيتها. وختم فيجانو بدعوة البابا إلى الاستقالة. تسببت رسالة فيجانو والفضيحة نفسها في زعزعة أساس مؤسسة متصدعة أصلا. حيث تعاني الكنيسة من انقسامات حادة بين أجنحة تقدمية وأجنحة محافظة ويظهر هذا الانقسام بشكل صارخ جدا في الولايات المتحدة حيث اهتم الكاثوليك التقليديون الجدد بدعوة فيجانو إلى استقالة البابا فرانسيس. كان هذا الفرع من الكنيسة يخشى أن يكون البابا فرانسيس يمثل تهديدا تقدميا لتعاليم الكنيسة حول الزواج والجنس. ويبدو أن الرسالة تعلل مثل هذه الشكوك عن طريق اتهام البابوية الحالية ومسانديها في الكنيسة بالرضا على ما أسماه فيجانو “أيديولوجيا مساندة للمثلية” و”شبكات مثلية” بين رجال الدين. حسب رأي فيجانو كان هذا هو سبب أزمة الاعتداءات الجنسية، في حين دافع التقدميون في الكنيسة على البابا فرانسيس لكن دون أن يكون لهم عزم أولائك الذين يطالبون باستقالته (ويرجع جزء من ذلك إلى أنهم هم أيضا يرون سجله العام في أزمة الاعتداءات الجنسية ضعيفا). في مطلع القرن الخامس عشر، وعلى إثر فترة من الانقسام، اجتمعت سلسلة من المجالس لتوحيد الكنيسة الكاثوليكية. واقترحت هذه المجالس نظاما يتولى بمقتضاه مجلس متكون من ممثلي الكنائس المحلية إيجاد تقييد على السلطة البابوية والفساد. لكن، سارعت البابوية إلى الإعلان بأن هذا المبدأ مخالف للكاثوليكية. وكان هذا التراجع أحد العوامل التي سمحت بالفساد في قيادة الكنيسة والذي شاهده مارتين لوثر عند زيارته روما في عام 1510. وقد شجع بابوات عصر النهضة على الإصلاح لكن ليس الإصلاح الذي يمتد إلى البابوية. ماسيمو فاجيولي: في زمن لوثر كان الخلاف يتمحور حول دور الكتاب المقدس في الحياة الفقهية للمسيحيين، واليوم ينقسم الكاثوليك حول تعاليم الكنيسة بخصوص الجنسانية وحياة الناسماسيمو فاجيولي: في زمن لوثر كان الخلاف يتمحور حول دور الكتاب المقدس في الحياة الفقهية للمسيحيين، واليوم ينقسم الكاثوليك حول تعاليم الكنيسة بخصوص الجنسانية وحياة الناس وفي السنوات التي تلت نهاية مجلس الفاتيكان الثاني بين 1962 و1965 تصدت البابوية مرة أخرى للإصلاحات. وكان لمجلس الفاتيكان الثاني وقع هائل على ثقافة الكنيسة وفقهها بما في ذلك تغيير لغة القداس من اللاتينية إلى اللغة العامية والمزيد من تشريك الناس العاديين والشباب في حياة الكنيسة. فك مركزية الحكومة البابوية تعود جذور أزمة الاعتداءات الجنسية اليوم في جزء كبير منها إلى خمسين عاما من رفض المكتب البابوي أي مقترح لفك مركزية الحكومة البابوية أو تحديثها حيث لم تكد تتغير هيكلتها منذ تأسيسها في عام 1588 في الفترة التي تلت مجلس “ترانت” مباشرة. تبقى هذه المؤسسة نظام عمل دون محاسبة حقيقية، ليس فقط عندما يتعلق الأمر بأزمة الاعتداءات، لكن أيضا في ما يتعلق بالحوكمة والقيادة الرعوية للكنائس المحلية الموكلة للأساقفة. كما تشكو الحكومة الكنسية من ضعف التمويلات بشكل كبير وقلة الموظفين مقارنة بالواجبات التي يفترض أن تنفذها بما فيها اختيار الأسقفية والتدقيق فيها وتعيينها والإشراف عليها ناهيك أنها تضم حاليا أكثر من خمسة آلاف أسقف كاثوليكي حول العالم. وعلى الرغم من أن إجراءات من قبيل إلغاء مركزية عملية فسخ الزواج ومجموعة جديدة من العمليات بالنسبة إلى مجمع الأساقفة (وكلها جزء من هذا الدفع الحبري في اتجاه كنيسة أكثر “أسقفية” وأقل تبعية لروما) حاول البابا فرانسيس بوضوح تغيير الوجهة والسماح بالمزيد من لامركزية الكنيسة، وعلينا الانتظار لنرى إن كان ذلك متأخرا جدا. إلى حد الآن تلكأت الأسقفية العالمية في قبول العرض الذي تقدم به البابا فرانسيس، والتغيير الأكثر وضوحا هو قرار البابا إحداث المزيد من الكرادلة (مقارنة بالماضي) ممّا يسمى جنوب العالم. بيد أن هذا ليس بالتغيير الذي يمكن أن يغير أو سيغير الحكومة المركزية في روما على المدى القريب. إن الهشاشة الناجمة عن بابوية وكنيسة تعارض الإصلاح المؤسساتي يجعل من الخلافات الفقهية أكثر خطورة. في زمن لوثر كان الخلاف يتمحور حول دور الكتاب المقدس في الحياة الفقهية للمسيحيين. واليوم ينقسم الكاثوليك حول تعاليم الكنيسة بخصوص الجنسانية. ويتجلى ذلك من خلال مراجعة وجهات نظر الكثير من الكاثوليك التقليديين، خاصة منهم عامة الناس ورجال الدين في الولايات المتحدة الذين يتوجهون نحو مجلات مثل “فيرست ثينغز” والشركة الإعلامية الكاثوليكية الكبرى “أو.تي.أن” والمدونات التقليدية ومجموعات الضغط الكاثوليكية مثل “مؤسسة نابا”. يميل هؤلاء إلى اعتبار أن أزمة الاعتداءات حصيلة للثورة الجنسية لفترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين إذ يعتقدون أنها ساهمت في تطبيع ثقافة المثلية الجنسية داخل الكهنوت إضافة إلى تطورات أخرى. ويرى هذا الجناح من الكنيسة أن أزمة الاعتداء لن تنحسر إلا إذا حافظت الكنيسة على الرأي المعارض لأي محاولة لتحديث التعاليم الرسمية الخاصة بالمسائل السياسية، والمثلية الجنسية. في المقابل، يقبل الجانب التقدمي الليبرالي من الكنيسة، بما في ذلك الكرادلة الأميركيون الذين عيّنهم البابا فرانسيس مثل بليز كوبيش في شيكاغو وجوزيف توبين في نوارك، عموما التعاليم الكاثوليكية حول الجنسانية لكنه يؤيد مقاربة أكثر براغماتية تخص مسائل مثل وضعيات الكاثوليكيين المثليين والمطلقين والمتزوجين ثانية ومنع الحمل والمساكنة السابقة للزواج. ترى هذه المجموعة أن إسكات الاعتداءات والتغطية عليها نتيجة سامة لنفاق الكنيسة المؤسساتية التي أنكرت إلى وقت قريب الحاجة إلى تحديث لغة تعاليمها بينما هي واعية بصمت في الهوة الواسعة بين تلك التعاليم والثقافة المعاصرة. انقسام يتجاوز الأسئلة العقائدية وكما هو الحال خلال الإصلاح البروتستانتي امتد الانقسام الفقهي ليتجاوز الكهنوت ويصل إلى عامة الناس والمؤمنين العاديين. ولا تدور النقاشات حول الأسئلة العقائدية الغامضة لذوي الاختصاص بل مسائل مثل الجنسانية التي هي جزء من حياة الناس اليومية. كان الإصلاح البروتستانتي بداية لعملية تأميم سياسي أصبح فيها المؤمنون رعايا ليس للكنيسة فقط بل وكذلك الأمم. وأشّر ظهور الدولة الأمة إلى تراجع العقيدة السياسية الكاثوليكية الرومانية التي حافظت على شرعية الكنيسة (وخاصة شرعية البابا) في درجة أسمى من شرعية الحكام الأباطرة. وبالمثل تتعلق الأزمة الكاثوليكية اليوم بالانقسامات السياسية الأعمق داخل الكنيسة حول التعاليم الصحيحة المرتبطة بالمسائل السياسية الاجتماعية. فبينما يميل الكاثوليك التقليديون المحافظون إلى معارضة أي تشريع ينهي تجريم الإجهاض عادة ما يحبذ التقدميون إنهاء التجريم مع إجراءات تمنح النساء بدائل مصممة للحد من عدد عمليات الإجهاض ما أمكن. وينزع المحافظون إلى معارضة وصول جميع الناس للرعاية الصحة ويفضلون الحق غير المشروط في حمل الأسلحة بالنسبة إلى المدنيين، بينما يحبذ التقدميون الحق الأول ويدفعون من أجل مراقبة الأسلحة. كما يمتلك المعسكران وجهات نظر متعارضة حول عقوبة الإعدام. الفساد في قيادة الكنيسة الذي شاهده مارتين لوثر عند زيارته روما في العام 1510، شجع بابوات عصر النهضة على طرق باب الإصلاح لكنه لم يكن إصلاحا يمتد إلى البابويةالفساد في قيادة الكنيسة الذي شاهده مارتين لوثر عند زيارته روما في العام 1510، شجع بابوات عصر النهضة على طرق باب الإصلاح لكنه لم يكن إصلاحا يمتد إلى البابوية ومثل الإصلاح البروتستانتي الذي أدى إلى الانقسام الديني للإمبراطورية الرومانية المقدسة لشارل الخامس، تحتوي الأزمة الحالية على أبعاد جيوسياسية، وتزداد تعقيدا بعد أن قام البابا فرانسيس لأول مرة بتحويل أنظار البابوية بعيدا عن أوروبا وأميركا الشمالية في اتجاه الجنوب العالمي وخاصة آسيا. في سبتمبر 2018 على سبيل المثال تمكن الحبر الأعظم من التوصل إلى اتفاق تاريخي مع الحكومة الصينية لإعادة توحيد الكنيسة الرسمية والكنيسة غير الرسمية هناك، وهو تحرك ينظر إليه الكثير من الكاثوليك الأميركيون بارتياب. ويرى الكثير من منتقدي البابا في الغرب أزمة الاعتداءات ليس كفشل فقهي أخلاقي فحسب، بل كذلك كفشل الكنيسة الكاثوليكية في البقاء ضمن روح الغرب. وليس من قبيل الصدفة بأن يساعد الاستراتيجي في البيت الأبيض سابقا ستيف بانون في بناء معهد الكرامة الإنسانية، وهي مؤسسة كاثوليكية رومانية يمينية في إيطاليا، يصفها مؤسسها بأنها “أكاديمية الغرب اليهودي المسيحي”. ماذا بعد؟ بالنظر إلى هذه الانقسامات يمكننا أن نتساءل هل هناك انقسام جديد في الأفق بالنسبة إلى الفاتيكان؟ الجواب، هو أنه من غير المرجح حدوث انقسام رسمي في الكنيسة الكاثوليكية في المدى القصير على الرغم من عدم استحالة ذلك. ويوجد الأعضاء المحتملون لطائفة كاثوليكية انقسامية في مناطق من العالم من قبيل الولايات المتحدة حيث تملك الكنيسة موارد مالية وممتلكات مهمة، إضافة إلى مجموعة عريضة من المؤسسات الكاثوليكية المستقلة التي تعمل بشكل واسع خارج التراتبية الكنسية. ومن شأن الانقسام أن يطلق وابلا من المطالب المثيرة للخلاف تتعلق بمن يملك ماذا، ومن يدين بماذا، والكنيسة تدفع التعويضات لضحايا الاعتداءات الجنسية. والإمكانية الأكثر أرجحية هي وصول الكنيسة الكاثوليكية الرومانية إلى بنية تشابه الكنائس الأرثوذكسية الشرقية. ويذكر أن بعض الكنائس الأرثوذكسية المنفردة لديها هويات وطنية قوية، وعادة ما تؤثر القومية على فقه هذه الكنائس ومنظومة الولاءات العالمية بينها وبين بطريق القسطنطينية الذي يتبوأ “المرتبة الأولى بين المتساوين” ومركز الوحدة الأرثوذكسية. وقد يكون ذلك حلا طويل المدى لبابوية مجهدة يترأسها بابا أميركي لاتيني يحكم قبضته على الكنائس الكاثوليكية التي بنت عالم المملكة المسيحية في أوروبا وأميركا الشمالية. وإلى حد الآن الشيء المرجح حدوثه أكثر من أي شيء آخر هو تعميق الانقسام غير الرسمي الموجود سلفا. يخلص فاجيولي دراسته بالإشارة إلى أنه إلى حد الآن الشيء المرجح حدوثه أكثر من أي شيء آخر هو تعميق الانقسام غير الرسمي الموجود سلفا، فالكاثوليكية ستظل مطيعة رسميا لبابا واحد وتراتبية أسقفية واحدة. في الوقت نفسه ستواصل المجموعات التقليدية الكاثوليكية الجديدة (بأبرشياتها ومدارسها الدينية الخاصة بها) السير في مسار مختلف عن باقي الكنيسة. وسيكون مسارهم “مسيرة طويلة”، أي محاولة لإعادة الكاثوليكية الرومانية والفقه الكاثوليكي إلى نموذج يسبق المجلس البابوي الثاني، وحتى يسبق القرن العشرين، وهو موقف يصفه فاجيولي بالساخر جدا في تاريخ الكنيسة، مشددا على أنه لا يمكن للفاتيكان، ويجب ألا يتخلى عن عولمة الكاثوليكية، رغم أن العملية يمكن أن تصل إلى تكلفة حادة لوحدتها الداخلية.
مشاركة :