الحلقات التي تقدمها «الشرق الأوسط» في ديسمبر (كانون الأول) من كل عام، عن الوثائق البريطانية السرية المُفرج عنها، لمرور 30 عاما عليها، تظل من بين أهم ما تقدمه الصحيفة لقرائها، من خدمة صحافية متميزة للغاية. توقفت في حلقتي هذه المرة، أمام ما جاء في الأولى منهما عن غورباتشوف بشكل خاص، فلقد كان هذا الرجل، هو آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي، وهو الذي غادر مكانه من السلطة، بعد أن اختفى من الوجود شيء اسمه اتحاد سوفياتي! فهل كان مجيئه إلى رأس الأمانة العامة للحزب الشيوعي في بلاده، ثم إلى رأس الدولة، من أجل تحقيق هذا الغرض على وجه التحديد، بوعي منه، أم دون وعي؟! نحن، إذن، نتكلم عن وثائق عام 1984، على مستوى رئاسة الوزراء البريطانية، ثم على مستوى وزارة الخارجية كذلك، بكل ما يمكن أن يصدر عن هاتين الجهتين، من مراسلات، أو محاضر جلسات، أو مكاتبات. فيها، يتبين لك، أن مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء في تلك الأيام، كانت قد ذهبت لحضور مراسم تشييع جنازة الزعيم السوفياتي أندروبوف، عام 84، لأسباب بروتوكولية مجردة.. غير أنها حين عادت في العام الذي بعده مباشرة، لحضور مراسم تشييع الزعيم الذي كان قد تلاه في السلطة، وهو تشيرنينكو، فإنها لم تحضر لأسباب بروتوكولية أبدا، بحسب ما هو مثبت في الوثائق، ولكنها حضرت لسبب أساسي، ووحيد، هو أن تعرف حجم الفرص المتاحة أمام غورباتشوف، في اتجاه الوصول إلى رئاسة الأمانة العامة للحزب الشيوعي، وبالتالي، إلى رئاسة الاتحاد السوفياتي كله، بجلالة قدره! ليس هذا فقط، فكل ما تقوله الوثائق، حول هذه النقطة، إلى الآن، إنما هو نصف جملة.. أما نصفها الآخر، فهو أن تفاؤلا غربيا قد ساد، حين وصل غورباتشوف، وأصبح أمينا عاما.. ورئيسا للدولة.. ولعلك تلاحظ هنا، أن التفاؤل لم يكن إنجليزيا وفقط، ولكنه كان تفاؤلا «غربيا» بكل ما وراء هذه الكلمة من عمق، ومن اتساع، ومن امتداد سياسي وجغرافي معا! الأستاذ عبد اللطيف جابر، كاتب الوثائق بالعربية، والمعلق عليها في حلقتين، ينقل في الحلقة الأولى، عن سكرتير وزير الخارجية البريطاني، أنه قال في خطاب لسكرتير رئيسة الوزراء، ما يلي: ميخائيل غورباتشوف يتمتع بحنكة سياسية تخوله الوصول إلى قمة الهرم السياسي، في أي دولة في العالم! طبعا.. هذا كلام عام، لأننا حين نجعله كلاما خاصا بصاحبه، سوف نفهم منه، أن المراد هو أن يقال، إن غورباتشوف هو أصلح رجل يمكن أن يجلس على قمة الهرم السياسي في الاتحاد السوفياتي، في هذا الظرف. لماذا؟! وهل كان الهدف، هو أن تكون نهاية الاتحاد على يديه؟! وبمعنى آخر، هل كان تصعيده في هرم السلطة هناك، ثم كان الفرح الغربي، والبهجة الغربية، والاحتفاء الغربي، بصعوده، ثم وصوله.. هل كان هذا كله، لوجه الله، ولأنه رجل إصلاحي، ولأنه رجل يؤمن بالمصطلحين الشهيرين اللذين أطلقهما في أيامه، وهما «الغلاسنوست» أي إعادة البناء، ثم «البيريسترويكا»، أي الإصلاح؟! هل كان التفاؤل الغربي، الذي تقول به الوثائق، لأن الغرب مشفق على الاتحاد السوفياتي إلى هذه الدرجة، من المشاكل الكبيرة التي تواجهه، وأن غورباتشوف هو من سوف ينقذ الاتحاد، وهو من سوف يواجه مشاكله بمساعدة من الغرب المتفائل؟! هل كان الغرب المتفائل بغورباتشوف، يهمه هذا كله، أو شيء من هذا كله، أم أنه كان يعرف ماذا سوف يفعل غورباتشوف حين يكون في السلطة، ولذلك تفاءل، كغرب، وابتهج، بل وأثبت تفاؤله وابتهاجه في وثائق رسمية سرية؟! مبلغ علمي، وعلم أي عاقل، أن الغرب المبتهج المتفائل بوصول غورباتشوف، إلى حيث وصل، ليس جمعية خيرية، وإنما هو عقل سياسي براغماتي، يتصرف في كل أحواله، حسب كل ما هو عملي، ولا تعنيه الأمور النظرية في شيء! يقال فيما يقال، إن المخابرات الأميركية حين جندت في وقت من الأوقات، مسؤولا سوفياتيا كبيرا لصالحها، وكان ذلك في مرحلة ما قبل غورباتشوف طبعا، فإنها لم تطلب منه أن ينقل إليها معلومات سوفياتية، ولا أوراقا رسمية تخص الاتحاد، ولا وثائق حساسة، ولا غير حساسة، ولا أي شيء من هذا النوع، وأنها طلبت منه شيئا وحيدا، هو أن يضع أسوأ الناس في أي موقع مسؤولية في الدولة، عندما يكون عليه أن يختار بين مرشحين لهذا الموقع.. أما الباقي، فسوف يتكفل هذا المرشح الأسوأ بفعله، بانتظام، ودون تقصير! مهمة كهذه، إذا اضطلع بها أي مسؤول على سبيل التكليف، تظل كفيلة بهدم أركان أي دولة، وبتركيعها على قدميها، على المدى الطويل! والقصة في حالة غورباتشوف، ليست في وصوله إلى رأس الدولة، في نهاية الأمر، ولكنها فيما يبدو، في طريق طويل راح يسلكه منذ بدايته، بحيث تكون نهايته هي هذه المحطة التي أعلن منها نهاية الاتحاد كدولة عظمى.. إنها هذه المحطة بعينها. ولذلك، فتفاؤل الغرب، وذهاب ثاتشر للاطمئنان على وصوله لم يكن أبدا بالمجان! تفاؤل الغرب الذي مضى عليه 30 عاما، لم يكن بالمجان، وإذا كانت الأوراق تكشف عنه أمامنا اليوم، للمرة الأولى، فهو كشف يدعونا للاكتئاب، كما أنه يدعونا لأن نقرأ ما نقرأ، من هذه الوثائق، في كل مرة يجري الإفراج فيها عنها، لا لمجرد أن نقرأ كلمات وحروفا على ورق، وإنما لنفهم، أو على الأقل لنحاول أن نفهم، كيف يفكر الغرب إجمالا، وماذا علينا أن نقول له، إذا ما جئنا لنخاطبه.
مشاركة :