يوم الأحد المقبل، الحادي عشر من هذا الشهر، يجتاز موسم الجوائز مرحلة مهمة بإعلان الفائزين بجائزة «غولدن غلوبس» في شتى المجالات. وهذا، كما ورد سابقا، منقسم بين الرجالي والنسائي، كما بين الدرامي والكوميدي. الأدوار التي استعرضناها حين تحدّثنا عن الممثلات المرشحات لجوائز «غولدن غلوبس» السنوية، والتي قد ينطلقن منها لدخول «الأوسكار» أيضا، كانت أدوارا لنساء متعثرات: ريز ويذرسبون في «وحشي» وجنيفر أنيستون في «كعكة» وجوليان مور في «ما زلت أليس» ثم روزاموند بايك في «فتاة مختفية» وفيليسيتي جونز في «نظرية كل شيء». هن إما وحيدات رضين بمحاولة شق طريقهن من دون رجل (كما في «وحشي» و«كعكة») أو زوجات محبطات بالمرض الشخصي («ما زلت أليس» أو المرض الذي أصاب الزوج («نظرية كل شيء») أو من طينة الحياة الزوجية ككل (كما في «فتاة مختفية»). وذلك الإحباط نجده في دور جوليان مور في قسم الكوميديا من هذه السباقات، إذ هي ممثلة تخاف ذبول الأيام وتحاول الانتصار عليها بالمزيد من العلاقات الخارجة عن أي حد أخلاقي. لكن المشكلة السائدة بين الشخصيات الرجالية لا تقل حجما وتزداد عن تلك النسائية دكانة. في مسابقة أفضل ممثل في دور درامي، لدينا ستيف كاريل في «فوكسكاتشر»، وبنديكت كمبرباتش في «لعبة المحاكاة»، وجايك جيلنهال في «زاحف الليل»، وديفيد أوييلاو عن «سلما»، ثم إيدي ردماين في «نظرية كل شيء». في مسابقة أفضل ممثل في دور كوميدي أو استعراضي هناك راف فاينز عن «غراند بودابست هوتيل»، ومايكل كيتون عن «بيردمان»، وبيل موراي عن «سانت فنسنت»، ثم واكين فينكس عن «رذيلة متوارثة»، وكريستوف فولتز عن «عينان كبيرتان». إيدي ردماين ممثل إنجليزي يجسّد شخصية رجل إنجليزي آخر (العالم ستيفن هوكينز) وراف فاينز هو أيضا ممثل إنجليزي يجسّـد شخصية رجل أوروبي، كذلك يفعل بنديكت كمبرباتش في «لعبة المحاكاة»، لكن باقي الشخصيات هي أميركية والجامع بينها هي أنها تعكس وضع الإنسان الأميركي في لحظة معاصرة تسودها المحنة الذاتية والإحباط الذي يشعر به حيال ذبول الحلم الأميركي الكبير والقبول على المتوفّر من الأوضاع الاجتماعية والعاطفية والنفسية كبديل وحيد. هذه الحالة واضحة لدى جايك جيلنهال إلى حد بعيد. «زاحف الليل» (Night crawler) هي كلمة يتداولها أهل مهنة التصوير ورجال البوليس تصف المصوّرين الذين يعملون في الليل ويتسللون إلى حيث تقع الأحداث لتصويرها وبيعها للمحطات التلفزيونية أو سواها.. نبدأ به وهو صفر على شمال الحياة. يسرق الأسلاك الشائكة والساعات ليبيعها لكي يعيش بثمنها. خلال عودته من إحدى «عملياته» يتوقّف ليشهد حادثة سيارة ويلحظ مصوّرا تلفزيونيا (بيل باكستون) هب لتصوير الحدث. يتبادل وإياه حديثا ويقرر بعده أن عليه أن يصبح أيضا مصور أحداث على الفيديو. وسرعان ما يجد محطة تشتري ما يصوّره مستفيدة من جسارته ورغبته في أن يكون الأول في موقع الحدث الذي عادة ما هو جريمة أو حادثة عنيفة. ليس فقط أن الفيلم يعلق على إعلام لا ينجح إلا بحكايات الفواجع، بل يقدّم لنا بطلا يدرك أنه لن ينتقل من شمال الصفر إلى يمينه إلا إذا صنع حلمه بيده، وفي سبيل ذلك لا اعتراف بأخلاقيات المهنة ولا حتى بأي ثوابت اجتماعية (سيصوّر مساعده وهو يلفظ أنفاسه لأن ذلك سيساعده على بيع مادته). مايكل كيتون في «بيردمان» لديه الكثير مما يحبطه: يكفي أنه خسر مكانته الفنية التي كانت لديه عندما لعب بطولة مسلسل من تلك التي تحتفي بـ«السوبر هيرو». نال الشهرة والثروة وحقق ما يصبو إليه الممثل من طموح عندما لعب شخصية هي في واقعها شخصية «بائع خيال»، المهنة ذاتها التي قام بها حين قاد بطولة «باتمان» في التسعينات والتي ما زال البعض (روبرت داوني جونيور، كريس إيفانز، وسواهما) يقومون بها إلى اليوم. البطل الطائر أو القادر على صنع المعجزات والمتحدّي للأشرار الأقوياء صار صنعة هوليوودية أكثر انتشارا من البطل الواقعي، ذاك الذي كنت تجده في ما كان يقوم كلينت ايستوود أو سبنسر ترايسي أو همفري بوغارت أو سواهم بتمثيله في السنوات السابقة. على المشاهد الآن الانصهار في البطولات المستحيلة في عالم خيالي جانح لكي يستوحي معنى البطولة التي كان يستوحيها المشاهدون السابقون من شخصيات واقعية أو خيالية إنما تستند إلى قدرات الواقع وظروفه. حين يدرك مايكل كيتون استحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء فإن ما يستطيع القيام به هو السعي لتحقيق فوز فني عبر المسرح (الذي هو أكثر واقعية بطبيعة حاله) و«بيردمان» ما هو إلا عن هذا السعي تحديدا. لكنه فيلم كاشف عن إحباطات هذا الرجل الواقف عند مفترق الطرق بين الفشل والنجاح. خسارة موقع الحال ذاته متوفر في المرشح الثالث هذا العام. في «فوكسكاتشر» يؤدي ستيف كاريل شخصية الملياردير الذي لا ينقصه أي شيء لكي يكون سعيدا، ولا تحدّه أي ظروف تحول دون تنفيذه أي حلم يريد. على الرغم من ذلك، هو في مرحلة يجد فيها أنه لا شيء قادرا على إنجاز ما يسعى إليه وهو الوقوف وراء أبطال أميركيين في المصارعة الحرّة والتحوّل بدوره إلى أيقونة أميركية كونه صاحب فريق يحقق الميداليات الذهبية في المباريات الدولية. ما هو مشترك بين هؤلاء الثلاثة واضح: العجز عن استبدال الحلم الأميركي الكلاسيكي (النجاح الاجتماعي والمالي) بأي حل آخر. نجد شخصية المصوّر التلفزيوني جيلنهال تقرر أنه في غياب هذا الحلم الذي كان يعكس استقرار المجتمع وقدرته على تحقيق الوعود، عليه أن يحقق حلمه منفردا وبشروطه. على مايكل كيتون مواجهة الحقيقة المرة عاريا (وهناك ذلك المشهد الذي يضطر فيه للركض في الشوارع عاريا من الملابس بعدما أطبق الباب على ردائه). ستيف كاريل ورث تحقيق الحلم عن والده ومشى فيه، لكنه لم يفهمه إلا من خلال مصالحه الخاصة، فوجده غير كاف له وحاول تطويعه لإرادته أيضا. ما يجسّده كل ذلك هو أن الرجل خسر موقعه كقيادة، واكتشف أنه لم يعد سوى خيال في منظر طبيعي كبير يساويه وباقي نماذج المجتمع وأجناسه. البطل التقليدي كانت له حظوة تمسّكه بالقيم. البطل الحالي لا يعرف ما هي هذه القيم أساسا، وإذا ما عرفها لا يود المخاطرة بالتمسك بها لأنها ستعرقل، بمفهومه، الوصول إلى ما يعتقد أنه سبب حياته. وسنجد أنه بين الأفلام التي لم يتم ترشيحها أو ترشيح ممثليها إلى جوائز الـ«غولدن غلوبس»، لسبب أو لآخر، ذات الواقع المستحدث. بطل «قناص أميركي» (الفيلم الجديد للمخرج كلينت ايستوود) خرج من حرب العراق على غير ما دخلها. هناك تلاشى الوضوح وبعدها وجد نفسه خارج المنظومة التي تركها. وسيلته الوحيدة للبقاء هي معايشة الأجواء القتالية نفسها ولو كانت الضحية هذه المرّة المواطن الأميركي الآخر. بن أفلك في «فتاة مختفية» كان رجلا بريئا، ليس من تهمة قتل زوجته، بل من معرفة كيف تأقلمت حياته وفقدت عناصرها الأساسية. فجأة هو متّهم بريء، لكن الأفدح هو اكتشافه أن حياته الزوجية هي أسوأ مما كان يعتقد. كل من «فتاة مختفية» و«القناص الأميركي» ينتمي إلى فرع من هذه الأفلام التي عاصرت فيها الشخصيات بقايا الحال الأفضل في التسعينات واكتشفت في هذا القرن الجديد أن الأمور تستطيع الوصول إلى الأسوأ، بل هي أسوأ فعلا. في حين أن جايك جيلنهال في «زاحف الليل» هو وليد هذا القرن ولم يعرف ما قبله. وحده فيلم «سلمى» يشير إلى أن الماضي لم يكن بدوره متلألئا إذ يسرد، عبر بطله ديفيد أوييلاو، حادثة عنصرية وقعت في الستينات وألهبت العلاقة الساخنة أساسا بين السود والبيض في جيوب الولايات الجنوبية في أميركا. التوقعات إذ تتكوّن الصورة الإجمالية من هذه العناصر الداكنة، فإن فوز الممثل في قسم الدراما على الأخص سيرتبط بكيف توجّه تصويت أعضاء «جمعية هوليوود للمراسلين الأجانب» مانحة هذه الجائزة منذ الثلاثينات. ولا ننسى أن إيدي ردماين يؤدي دور معاق وهو نوع آخر من الشخصيات المحبطة كونها واقعة في قيد لا مفك منه. هذا ما يجعل السباق صعبا والتكهن بنتائجه أصعب. على ذلك، لا بد من القول إن الممثلين الأقرب إلى تحقيق هذا الفوز الصعب يمكن وضعهم على النحو التالي، وبترتيب الأعلى توقعا وما دون: • ستيف كاريل عن «فوكسكاتشر» • إيدي ردماين عن «نظرية كل شيء» • ديفيد أوييلاو عن «سلمى» • بنديكت كمبرباتش عن «لعبة المحاكاة» • جايك جيلنهال عن «زاحف الليل». هذا الترتيب يعترف بوجود عناصر أخرى مؤثرة: ستيف كاريل جاء بشخصية جديدة مختلفة تماما عن كل ما لعبه من قبل. ردماين يكتنز تلك الصعوبة البدنية في تجسيد شخصية هي ضحية عطل جذري في الأعصاب نتج عنه عدم قدرته على ممارسة معظم نشاطاته (مذكرا بشخصية دانيال داي لويس في «قدمي اليسرى»). في منطقة الوسط أوييلاو وكمبرباتش وفي النهاية جايك جيلنهال الذي تقل توقعات فوزه، ليس بسبب قدراته الفنية، بل لأن الشخصية التي يمثلها شريرة إلى درجة مزعجة. ستيف كاريل شرير لكنه محاط بمبررات تؤدي إلى قبوله. جيلنهال مبرراته محض مادية تفتقد أسباب التعاطف. الأمر مختلف بالنسبة للممثلين المرشحين في قسم الكوميديا والاستعراض. هناك بطولة تقليدية المواصفات من بيل موراي في «سانت فنسنت»، وراف فاينز في «غراند بودابست هوتيل»، لكن الشر موجود أيضا عبر ما يمنحه كريستوف فولتز في «عينان كبيرتان». هو الوحيد بين المرشحين في موقفه المعادي للمرأة إذ يلعب دور الزوج الذي يطمح لسرقة جهود زوجته (آمي آدامز المرشحة عن هذا الفيلم في الفئة النسائية) ونسب فنها إليه، مما يجعله، نظريا على الأقل، الممثل الذي سوف تمتنع المقترعات عنه مفضلة عليه شخصية أسمى أو تستحق التعاطف. بالتالي، ومن وجهة نظر نقدية صرفة تجانبها معرفة بتاريخ هذه الجائزة والأعضاء المنتسبين إلى الجمعية المذكورة، نجد أن قائمة الأقرب إلى الفوز تتبع التسلسل التالي: • مايكل كيتون عن «بيردمان». • راف فاينز عن «غراند بودابست هوتيل» وبيل موراي عن «سانت فنسنت» على نحو متساو. • واكين فينكس عن «رذيلة متوارثة». • كريستوف فولتز عن «عينان كبيرتان».
مشاركة :