لم يلتفت الخطاب الروائي والأدبي، وهو يستحضر شخصيات التاريخ الفاعل، إلا في قلة منه إلى شخصية المنصور بن حسين الحلاّج، المتصوف الشهير، وإلى ما حاق به من سجن وتعذيب وقتل جرّاء الجهر بأفكار اُعتبرت وقتها ضدّ الدين، وتُحرِّض العامة على الفسق والزندقة. وفي ما يلي جرد لأهم الأعمال الأدبية التي تناولت شخصية هذا المتصوف الثرية بأبعاد عديدة، ما يجعلها قماشة مرنة تَقْبَلُ وَتَحْمِلُ في طياتها دلالات عديدة. تعدُّ مسرحية “مأساة الحلاّج” عام 1966 لصلاح عبدالصبور من أول الأعمال الإبداعية التي تناولت شخصية الحلاّج، في عمل يستعرض مأساته، وإن كان عبدالصبور حمّلها أفكارا تُعارض الاستبداد سواء في الرأي أو في السلطة، ولهذا اعتبرها البعض نبوءة لما حدث في نكسة يونيو 1967. ثم تلت هذا العمل رواية “وارتعش القلب طيفا.. الحلاج” لعباس أرناؤوط 2010، وإن جاء النص أشبه برواية سيرة غيرية، تناول فيها سيرة الحلاج؛ حيث تقاطعت سيرته مع أحداث تاريخ تلك الفترة من تاريخ الدولة العباسية. واستطاع المؤلف أن يجعل من الحلاج نموذجه في التمرد والقيام بثورة بعد ثورة القرامطة. ثمّ جاءت رواية “الحلاّج” لمحمد سامي البويهي، وإن كان المؤلّف استعار إلى جانب اسم الحلاّج الذي جعلها عنوانا لروايته، صفة من صفات الحلاج، في سعيه للتغيير والمقاومة، حيث بطل الرواية أشبه بسيزيف يحمل على عاتقه التضحية؛ ساعيا إلى محاربة الشرِّ، وهي الصورة التي ضرب بها الحلاج مثالا فريدا، عندما استكان لحكم القاضي أبوعمر المالكي، الذي أمر بقتله بعد أن رأى كفره ومروقه. طيف الحلاج في رواية “طيف الحلاّج” للكاتب السعودي مقبول العلوي، الصادرة عن دار الساقي 2018، ثمّة حضور طاغٍ لشخصية المتصوف الحلاّج، ليس فقط في استدعاء حكايته ومأساته، أو حتى إعادة محاكمته في الوقت الرّاهن وفقا لاستدعاء الشهود، كما فعل الراوي الدكتور نوري إبراهيم. وإنما حضور الحلاج يتأتى في حضور السّياق التاريخي، الذي وقعت فيه المأساة، بكلّ ملابساته وأزماته والأهم أفكاره وعقلياته، وهو ما يكشف عن عمق المأساة، مع فارق الزمن، حيث كان الحلاّج يعيش في القرن الخامس الهجري مقارنة بالقرن الخامس عشر الذي حدثت فيه وقائع وأحداث الرواية؛ فالمؤسف كما يقول الراوي أن “العقول لبثت كما هي، لم تتبدّل ولم تتغيّر، رغم مرور القرون والمئات من السنين”. ومرة ثانية، عندما تراجع عن محاكمة الحلاّج وفقا لمقاييس عصره، ينتهي بعد البحث إلى القول “وجدت من العبث أن أُحاكمَ الحلاّج بمقاييس عصرنا، وإن لم يتغيّر شيء. لا تزال تعيش بيننا العقول والأفكار نفسها والفكر الأُحادي عينه الذي يقيس كل شيء بمنظور رمادي عقيم غير قابل للحركة والتنوّع والتطويع”. وبقدر صدق هذه الرؤية التي تكشف عن سوداوية الواقع، جعل المؤلف بطله سلبيّا كافكاويّا، وهو المحمّل بكل أدوات التغيير، ولديه ما يمكن من أجله أن يقاوم. وسقوط البطل في هذه النزعة السّلبية، كان له أثره في النهاية التي انتهى إليها الجميع، فلجأ إلى التغيير بالقوة والعنف، وهو ما له دلالة فادحة على أن تبنّى أدوات التغيير السّلمي التي لم يعد لها حضور في زمننا، على العكس مما حدث مع الحلاّج الذي تكالب عليه الجميع وانقلب عليه أستاذه، بل حرّض عليه، باعتباره فاسدا وزنديقا، إلاّ أنه أَبَى المقاومة واستسلم لمصيره، مُرجِّحا انتصار الأفكار. حضور طاغٍ لشخصية المتصوف الحلاّجحضور طاغٍ لشخصية المتصوف الحلاّج ومع هذا فأفكاره هي التي انتصرت ولم تمت مع موته كما توّهم مَن اغتالوه. التغيير الوحيد الذي تسرّب للراوي، وهو الحامل لأفكار الحلاّج جاء بعد خوض تجربته المريرة، كما أنه جاء بطيئا لكن أهميته تكمن في كونه فاعلا وتأثيره لمسناه في مشهد حرق نوري للمظروف الكبير الذي يحوي “المستندات الخاصة بالدكتور فالح”، في إشارة إلى طي صفحة الماضي ووأد رغبة الانتقام. وثمّة تواز بين شخصية الدكتور نوري إبراهيم مع شخصيات الحلاّج، ليس فقط على مستوى ما تعرّض له كلاهما من اضطهاد فكري وتنكيل انتهى بالأوّل إلى القتل وبالثاني إلى طرده من الجامعة وفي مرحلة لاحقة ببتر عضوه الذي يتفاخر به، وإنما أيضا في دوافع الانتقام، فمثلما انتقم شيخ الحلاّج “أبوعمرو المكيّ” منه، بسبب رغبته في الزواج من تلك التي أرادها أن تكون زوجة ثالثة له، كان انتقام الدكتور فالح راشد من نوري ابن عمّه وصديق مغامراته، بسبب رغبة نوري في الزواج من حليمة، بل كان ورود اسم نوري أحد أسباب التشبّث بها بعد أن رفضها من قبل عندما اقترحتها أمّه عليه. وما إن حدث الطلاق، حتى تزوّجها نوري بعد سبع سنوات، وبعدها بدأت الحرب بينهما، وقد وجدها فالح فرصة لإظهار كراهيته وعداوته بالتحريض عليه، فَسُحبت منه الدكتوراه، وأيضًا تمّ فصله من الجامعة. حضور الحلاّج وعصره في أزمة الدكتور نوري مع الجامعة ورفض رسالته لأنها عن شخصية الحلاّج حامل فكرة الزندقة كما ادّعوا. روح الجاهلية الرواية إلى جانب طرحها لقضية أحادية الفكر وتزمّته وغلبة الأصولية والتيارات المتشدّدة على حرية الفكر والتجديد، كشفت عن قضية خطيرة أهم من حكاية الحلاج التي سردها الراوي تحت عنوان المخطوطة، وجاءت أشبه بسيرة غيرية عنه. فالرواية كانت بمثابة صرخة احتجاج ضدّ ما يحيق بالمرأة في هذه المجتمعات، التي تتمسّك بما ينتهك المرأة على نحو ما يحدث في الختان وتشكيك الفتاة. وعملية التشكيك عادة تتم للفتاة بعد الختان بغرض صيانة عفّتها، والخاتنة التي قامت بِشَكْلها، هي التي تتولى أيضا فضه. وهو في الحقيقة طقس مُقزز تكون فيه الفتاة مستباحة ماديا، بهتك عرضها أمام الجميع، ومعنويًّا بسقوط رجلها من نظرها، حيث يُجبر على أن يدخل عليها وهي مكسورة الجناح. الاطراد في وصف هذه العملية يؤكد الإدانة التامة لهذا الفعل. كما أن مشهدي اضطهاد نوري في الجامعة وانتهاك جسد حليمة في البيت، متكاملان، فإذا كانت الأصولية مارست سطوتها في أروقة الجامعة، فإن الفكر الضيّق والأفق المُنسدّ، يسيطران على الواقع الخارجي ويشكلان وعيه. وهو ما يشير إلى أن قشرة الحداثة التي تتباهى بها هذه المجتمعات، لم تلغِ الرُّوح الجاهلية التي استشرت في الوعي. لم تقف روح الجاهلية عند هذه العادة المقيتة والتي سبق أن روت تفاصيل رعبها حليمة، بصوتها الخاص وهي طفلة. وإنما ثمّة روح أخرى تسري عبر المغالاة في الانتقام على نحو ما فعل الدكتور فالح بنوري. لم يقدّم المؤلف أسبابا مقنعة لهذه العداوة بين أبناء العم وصديقي الطفولة والدراسة، وأيضا لردّة فعلها المتمثّل في الانتقام. وهو ما أوحى بأن ثمّة إحساسا بالمبالغة في الحكاية، وأن ما حدث لا يستحق كل هذه المأساوية. ومع هذا استطاع الرّاوي أن يقدّم نصّا متماسكا نوعا ما، عبر تقنيات جديدة، حيث مزج في السرد بين أنواع مختلفة، كاليوميات والمخطوطة، وراية الأصوات، وأيضا ثمة تنوّع في استخدام الضمائر بين متكلّم حيث روت الشخصيات بصوتها حكاياته، والغائب كما في سيرة الحلاّج التي جاءت مُقحمة، فالراوي وهو يسرد بالغائب لم يضف جديدا غير معروف عن الحلاّج، فما قدمه لا يخرج عن إطار المعلومات الخبرية المختزلة، لا أكثر. إضافة إلى الضمير الأنت أيضا الذي أعطى به مساحة ليتأمّل الشخصية من الخارج، دون أن يقع تحت تأثيرها.
مشاركة :