القاهرة - منذ بداية الألفية تأسست العديد من المساحات الحرّة لسد حاجة الفرق المستقلة الناشئة بمصر، كـ”مسرح الفلكي”، و”مسرح عماد الدين”، و”مسرح الورشة” وغيرها من المساحات المنتشرة عادة بمحيط منطقة وسط القاهرة، والتي تقدم خدماتها لهذه الفرق نظير كلفة رمزية، أو بلا مقابل في بعض الأحيان. ومن بين هذه المساحات المستقلة تبرز “ساحة مسرح روابط”، التي أصبحت مقصدا هاما للعديد من الفرق وفناني الأداء والجمهور القاهري الباحث عن الاختلاف، فبين المقاهي الشعبية والورش المنتشرة على جانبي الشوارع الخلفية لوسط القاهرة تبرز “ساحة مسرح روابط” كواحدة من بين أهم المساحات الثقافية التي تقدم لروادها أنواعا مختلفة من الفنون الأدائية، وإحدى المنصات الهامة في المشهد الفني المستقل في مصر. على مدى سنوات طويلة كان الافتقار إلى مساحات مستقلة وغير ربحية لعروض الأداء والبروفات يمثل أزمة حقيقية للعديد من الفرق المسرحية المستقلة في مصر، فقد كانت أغلب المساحات المهتمة بالعروض المسرحية مساحات حكومية تابعة للمؤسسة الثقافية الرسمية أو مساحات خاصة ذات طبيعة تجارية، مع ندرة ملحوظة للمساحات المستقلة غير الهادفة للربح، ما مثل معضلة حقيقية للكثير من الفرق التي لا تملك رفاهية العرض على مسارح الدولة، ولا تتوفر في عروضها الشروط التجارية التي يتطلبها العرض على المسارح الخاصة. وتأسس “مسرح روابط” عام 2006 كأحد نشاطات مؤسسة “تاون هاوس″ الثقافية في القاهرة بدعم من بعض الفنانين المستقلين، وكانت الفكرة الرئيسية من وراء تأسيسه أن يكون قاعدة جماعية مهتمة بالفنون المسرحية المعاصرة والبديلة، بما في ذلك المسرح والموسيقى والأفلام. ويعبّر اسم “روابط” عن الهدف الرئيسي من إنشاء مثل هذه المساحة التي توفر روابط ثابتة بين الفنانين والجمهور. وتقدم روابط العديد من أنواع الدعم للفنانين، فخلافا لمساحة العروض التي تتيحها، فهي تقدم أيضا دعما إداريا مثل كتابة المنح وإعداد التقارير وإدارة ميزانيات الإنتاج المعقدة، هذا خلافا للتسويق وغيرها من الأمور المتعلقة بعملية الإنتاج المسرحي التي لا توفرها المرافق أو المساحات الأخرى. والفضاء الذي يحتله “مسرح روابط” كان في الأصل عبارة عن مرأب سيارات قديم يطل على أحد الشوارع الجانبية لوسط القاهرة، وببعض الجهد والدعم تم تحويل هذه المساحة إلى مسرح يعمل بكامل طاقته، وبسعة تصل إلى 150 متفرجا، وهكذا فتحت روابط أبوابها في بداية عام 2006 لتكون بداية لسلسلة من المشاريع الفنية المستمرة. واستمرت مساحة روابط في تقديم عروضها حتى خلال السنوات التي أعقبت أحداث يناير في مصر عام 2011، بل كانت جزءا مؤثرا من هذا الحراك السياسي والمجتمعي، وقد مثل المسرح حينها مساحة حرة ومستقلة ومتنفسا هاما للكثير من الفرق المسرحية التي لم تجد لها مكانا على مسارح الدولة لما تتضمنه عروضها من محتوى يتضامن ويتفاعل بشكل مباشر مع ما يحدث في الشارع. وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية خلال تلك الفترة وما شهدته من اضطراب سياسي بدا أن لا نهاية له، تعرضت “مساحة روابط” للكثير من التهديدات التي كادت تؤدي إلى غلقها، لكنها قاومت كل ذلك واستمرت بأنشطتها كإحدى أبرز المساحات الفنية المستقلة في المشهد القاهري. ويبرز هنا دور مؤسسة “تاون هاوس” الراعية والمؤسسة لهذه المساحة المسرحية، وهي مؤسسة فنيه وثقافية غير هادفة للربح، تعتمد في تمويلها على الدعم الذي تتلقاه من قبل بعض المؤسسات الغربية والهيئات الأوروبية المعنية بدعم الأنشطة الثقافية في المنطقة العربية. ومثلت “تاون هاوس” ما يشبه الظاهرة منذ وجودها على ساحة العمل الثقافي المصري منذ ظهورها في تسعينات القرن الماضي، وهي تهتم بشكل أساسي بدعم التجارب الفنية البصرية. ولا تقتصر عروض “تاون هاوس” على تقديم تجارب الفنانين المصريين وحدهم، بل تستضيف عروضا لفنانين أجانب، هذا خلافا للنشاطات الأخرى المصاحبة من ورش عمل وندوات ولقاءات، حتى أنها أضفت على المحيط المجاور لها نوعا من النشاط الذي انعكس على المقهى الملاصق لها والمعروف بـ”التكعيبة”، والذي انتعش وعُرف بظهورها كأحد ملتقيات الفنانين والمثقفين والكتاب، حيث استطاع أن يخطف الأضواء من أماكن أخرى لها تاريخها مثل “أتيليه القاهرة” و”مقهى ريش” الشهير الذي لا يبعد كثيرا عن المكان. "ساحة مسرح روابط" مكان متاح للجميع"ساحة مسرح روابط" مكان متاح للجميع وقد وصف البعض دور “تاون هاوس” بأنه يبدو تنافسيا مع المؤسسة الرسمية لتبنيها عددا من المشاريع الثقافية، وتميزها بعروضها المنفتحة على الفنون المعاصرة، وهو الأمر الذي أثار حفيظة البعض ممن اتهموا القائمين عليها بتبني أجندة غربية في الأساس، بل ومحاولة تشويه الذوق العام من خلال تبنيها لاتجاهات غريبة على المجتمع المصري وبعيدة عن سياق التطور الطبيعي للثقافة والفنون المصرية. ورغم هذا الهجوم، وتلك العراقيل التي تعرضت لها مؤسسة “تاون هاوس”، إلاّ أنها ظلت تقدم خدماتها للفنانين والجمهور، كما ظلت وجهة أساسية للفنانين الشباب الباحثين عن فضاءات جديدة تحتضن أفكارهم المعاصرة، هذه الأفكار التي تلفظها المؤسسة الرسمية بطبيعتها البيروقراطية والمتزمتة أحيانا. وترى الكاتبة روان الشيمي أنه على الرغم من أن “روابط” و”تاون هاوس” يعملان تحت نفس المظلة إلا أنهما مختلفان تماما في طريقة عملهما، فـ”تاون هاوس” تعتمد بشكل واضح على الانتقاء الفني، بينما “روابط” يمثل مكانا متاحا للجميع ويمكن لكل الفنانين تأجيره لإقامة ورش العمل والحفلات الموسيقية والأدائية. ومن ناحية أخرى لا يقوم “مسرح روابط” بالرقابة على مضمون الأعمال أو التدخل في ما يحدث بها، وهو ما يجعل منه مكانا فريدا من نوعه يقبل عليه الكثيرون من فرق المسرح المستقل التي تكافح للعثور على مساحة لتقديم أعمالها. ميزة أخرى تضاف إلى “مساحة روابط”، تتمثل في موقعها القريب من مقاهي وسط القاهرة، والتي يعتبرها الكثير من الفنانين امتدادا للمشهد الفني البديل في مصر، فهي تعد نقاطا لتجمّع المهتمين بالمسرح والفنون بشكل عام، ومساحات لتبادل الأفكار والمفاهيم بل وللتعاون في كتابة النصوص، وهي أشبه كما يقول المخرج والممثل هاني المتناوي بمطبخ كبير مفتوح للإنتاج الفني.
مشاركة :