خلال زياتي الأخيرة لعاصمة الضباب لندن، كنت على موعد مع مؤتمر تحت عنوان «مستقبل العقود التجارية»، في رحاب معهد الدراسات القانونية المتقدمة، أحد المعاهد العريقة التابعة لجامعة لندن، بحضور مجموعة متميزة من أكاديميين وباحثين ومتخصصين في العقود التجارية وتقنيات العولمة الرقمية. حرصت على حضور المؤتمر بحثا عن إجابات لواقع متجدد، متغير ومتسارع، فإذا بي أعود أدراجي مثقلا ومحملا بإجابات هي في الحقيقة أسئلة جديدة وتحديات مثيرة، أدركت معها أن مستقبلنا القريب يحمل في رحمه تحديات لن تنفع معها حيلتنا وضآلة بضاعتنا المعرفية وضعف همتنا في مواكبة التطوير واللحاق بقطار التحديث. كان السؤال المحوري الذي طرحه الحاضرون: أيهما أكثر سرعة ومواكبة للواقع الافتراضي والذكي والرقمي أو ما يمكن تسميته «العدالة الرقمية»؟ هل الحلول التشريعية القضائية الوطنية، أم تلك الحلول والشروط والنماذج العقدية التي تضعها الجمعيات المهنية والمنظمات والاتحادات الدولية في المجالات التخصصية مثل عقود المقاولات (الفيدك)، وبراءة الاختراع، والشحن الجوي والنقل البحري، وعقود نقل التكنولوجيا والملكية الفكرية، وغيرها. وتشعب المشاركون من سؤالهم المحوري بأسئلة فرعية كثيرة، يمكن حصرها في واقع جديد بات يشكل تحديًا للسلطة التشريعية في عديد من البلدان، ومن ثم للسلطة القضائية وانتهاء بالسلطة التنفيذية، خاصة في منطقتنا العربية التي تُعد مجتمعا استهلاكيًا ومستوردًا للسلع والخدمات والمنتجات أكثر منه مصدرا، وعليه أن يقبل بما تُمليه الهيمنة التجارية في صورتها الحاضرة بمنتجاتها وخدماتها الذكية والرقمية، وما يرتبط منها بالذكاء الاصطناعي الذي بات عنوانا دائما لواقع متسارع ومتغير. كانت أهم نقطة إثراء في هذا المؤتمر، ابتعاد المنظمين عن أوراق العمل التنظيرية والأكاديمية في العقود التجارية الدولية، وجَعل المؤتمر منصة واقعية عملية يثبتون عبرها أن ما نعتوه بتحديات جمة ليس محض توقعات وانطباعات، ولكنه واقع ماثل، لذلك حرصوا على دعوة ممثلي شركات التكنولوجيا العاملين في مجال تقديم الحلول المرتبطة بتقنية المعلومات والرقمنة في المجال القانوني. وانتهى الحضور إلى طرح سؤالين محوريين يحتاجان إلى اجتهادات وإجابات من أهل التشريع والقانون؛ ارتبط الأول بالعقود الذكية، وارتبط الثاني بنظام قاعدة البيانات الحداثي (Blockchain) أو (سلسلة الكتل المجزأة) التي تستند في حفظها للبيانات، ومنع اختراقها أو التعديل عليها إلى مبدأ عمل الهوية الرقمية، وهي استخدام مفاتيح التشفير التي تعتبر عاملاً قويًا يدعم ثورة الـ (Blockchain). تقوم كبرى المؤسسات المالية حول العالم باعتماد العقود الذكية بعد ظهور العملة الرقمية، والعمل بتقنية البلوك شين لحفظ البيانات بشكل لا مركزي معقد يصعب اختراقه مثل بنك أوف أمريكا وجروب وجي.بي مورغان وكريدي سويس، إضافة إلى 61 بنكا يابانيًا وكوريًا جنوبيًا، كما تمّ تشكيل تحالف «إنتربرايز إثيريوم ألاينس» عام2017. ليضم500 شركة بهدف تحسين الخصوصية والتطوير وأمن تطبيقات بلوك تشين لتطوير العقود الذكية وتنفيذها لشركات معينة. وهنا تتبادر إلى الذهن أسئلة أخرى أكثر إثارة، إذ كيف ستتناول وتتداول هيئات القضاء أو التحكيم هذه العقود إذا نشأ نزاع بشأنها؟ ومن أين لها أن تستعين بأدوات قانونية ذكية ورقمية فاعلة لتحقيق عدالة ناجزة؟ وهل لهذه الهيئات أرضية رقمية صلبة مهيأة للتعامل مع العقود الذكية المرتبطة بتقنية الـ(Blockchain) والعملات الرقمية؟ وهل نمتلك الخبرات العميقة وشركات التكنولوجيا الفاعلة والمواكبة والمتسارعة بكل ما تملك من تقنيات ومعدات وقواعد البيانات اللازمة لتداول تلك العقود؟ ومن ثم كيف يمكن لمنصات العدالة مجاراة شواهد الثورة الصناعية الرابعة المرتبطة بها؟ ظلت أسئلة مؤتمر لندن المتشعبة والعميقة والمثيرة تتقاذفني كمن تتقاذفه الأمواج المتلاطمة في بحر لجي؛ لأَخلُص إلى أنه ستظل هناك مسافة فاصلة بين ما وصل إليه النظام القضائي حول العالم باستخدام التطبيقات الذكية، مثل النظام الإلكتروني لإدارة الأحكام، والصرف الذكي ونظام أمن الوثائق، والقاضي الذكي، والمحامي الذكي، وسعيه الحثيث إلى تحويل الدعاوى والجلسات والتنفيذ إلى خدمات ذكية 100%، وبين استعداد الدول للتعامل مع عالم معرفي ذكي ورقمي أكثر عمقًا وتعقيدًا يضم بين جنباته العقود الذكية، وتقنية (Blockchain) والعملات الرقمية. { خبير دولي في التميز المؤسسي والتحكيم التجاري
مشاركة :