ربما يكون من الصعب تخيل ألمانيا الحديثة من دون زعيمتها أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية التي أصبحت وجه أوروبا المتزن والعقلاني. أعلنت ميركل الأسبوع الماضي أنها لن تخوض الانتخابات المقبلة، على أثر تراجع قوي لشعبيتها بعد سنوات من النجاح والشعبية، التي جعلتها القائدة السياسية الأوروبية ذات الفترة الأطول في منصبها هذا القرن. ابتعاد ميركل عن سدة الحكم ينهي مرحلة تاريخية، عندما أصبحت الفتاة التي ترعرعت في ألمانيا الشرقية وخلف جدار برلين خلال سنوات الحرب الباردة، الزعيمة الفعلية لأوروبا موحدة.أوروبا في عام 2018 مختلفة بشكل كبير عن أوروبا عام 2005. جاءت ميركل للحكم في وقت كانت دول أوروبا تطمح إلى تقوية اتحادها وتدرس توسيعه، وفي وقت كانت روسيا ما زالت ضعيفة وتبحث عن دور دولي لها. ميركل التي تزعمت حزبها 18 عاماً، وكانت مستشارة ألمانيا على مدار الأعوام الـ13 الماضية، حرصت على تقوية الاتحاد، والتقارب مع فرنسا، ليكون قلب القارة قوياً. إلا أن الأزمة الاقتصادية اليونانية عام 2009، وتبعات الأزمة الاقتصادية العالمية، غيرت تلك الخطط، وجعلت ميركل تواجه انتقادات، لإصرارها على إجراءات حازمة تمنع تمدد الأزمة المالية. ولكن في الوقت نفسه، أثبتت ميركل أنها الزعيمة الفعلية لأوروبا، واستطاعت إنقاذ اليورو، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في اليونان وإيطاليا والبرتغال وغيرها.من جهة أخرى، عندما تولت ميركل الحكم، كان فلاديمير بوتين رئيساً جديداً نسبياً لروسيا، ويبحث عن دور أكثر فعالية لبلاده. مع التوسع الأوروبي وتوسع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كان بوتين بحاجة إلى علاقة جيدة مع ألمانيا، وبذلك باتت علاقته مع ميركل، على الرغم من الخلافات في التوجه السياسي، فريدة. إتقانها اللغة الروسية ومعرفتها بالتفكير الروسي، ساعداها على بناء جسور مع بوتين. ولكن مع التغييرات الأوروبية والروسية، وصعود نجم بوتين، واستغلاله للمشكلات الأوروبية، مثل أزمة الغاز والأزمة الاقتصادية، توترت تلك العلاقة.في عام 2005، كانت علاقة برلين بواشنطن معقدة، فالولايات المتحدة كانت تعتمد على التعاطف الدولي معها، إثر هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ولكنها كانت منشغلة بغزو العراق الذي عارضته ألمانيا وفرنسا رسمياً بشدة. وعلى الرغم من موقف الحكومة الألمانية بقيادة غيرهارد شرودر ضد الحرب على العراق عام 2003، أيدت ميركل الولايات المتحدة، واعتبرت أن الحرب على العراق باتت ضرورة يجب دعم واشنطن فيها. جاء هذا التأييد كون ميركل من أشد الداعمين لعلاقات أوروبية - أميركية قوية، وعملت على ذلك خلال السنوات الأولى من توليها قيادة حزبها، كما أنها بنت علاقة وثيقة مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. كل ذلك تغير عند وصول الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وظهرت الخلافات العلنية بينهما، خاصة فيما يخص التجارة الحرة. توجه ترمب والزعماء الشعبويين ضد العولمة والانفتاح الاقتصادي، يتناقض مع معتقدات ميركل التي تؤمن إيماناً قوياً بأن السبيل الأفضل للنمو والتقدم يأتي عن طريق الانفتاح، وبناء الجسور التجارية والسياسية.ميركل أول زعيمة لألمانيا ولدت بعد الحرب العالمية الثانية، وسعت لتطوير صورة جديدة عن بلادها، بعيداً عن ثقل تركة الحرب العالمية الثانية والحكم النازي. كما أن سنوات شبابها خلال الحرب الباردة جعلتها تطمح لكسر الجدران ودعم العولمة. نجحت ميركل في دفع الاقتصاد الألماني إلى الأمام، وباتت برلين اليوم تتمتع بأقوى اقتصاد في أوروبا، وخامس أقوى اقتصاد في العالم، من حيث إجمالي الناتج المحلي.وسعت ميركل لجعل برلين رمزاً لما يسمى «العالم الحر»، من حيث التوجهات السياسية المنفتحة والمناصرة لحقوق الإنسان. وكانت هناك لحظة حاسمة أظهرت مبادئ ميركل السياسية والإنسانية. ففي 31 أغسطس (آب) 2015، اتخذت المستشارة الألمانية خطوة شجاعة وغير مسبوقة، بإعلانها فتح أبواب وحدود بلادها لاستقبال اللاجئين من الشرق الأوسط، الذين وصلت أعدادهم لمستويات غير مسبوقة في العالم. قالت ميركل لشعبها بثقة: «يمكننا القيام بذلك»، معتبرة أن مساعدة المحتاجين والباحثين عن مأوى «واجب وطني». وصل مليون لاجئ إلى ألمانيا خلال عامين، وحصل نصفهم على ترخيص للبقاء في البلاد. كان قرار ميركل مختلفاً بكونه قراراً مبنياً على المبدأ والعاطفة لمساعدة الفارين من الحرب، بدلاً من التريث الذي عرفت به ميركل. وتحدثت حينها عن ضرورة أن تكون الدول القوية والقادرة مستعدة لمساعدة الآخرين. إلا أن حكومتها وشعبها لم يكونا مستعدين لما تتطلبه هذه الخطوة من مستلزمات ملموسة وتأثيرات اجتماعية. فعانت الدولة في توفير مساكن للاجئين واستضافة أبنائهم في المدارس بالسرعة المطلوبة، مع تدفق مئات الآلاف في الأشهر الستة الأولى، بينما ظهرت مجموعات صغيرة ولكن مؤثرة من اليمين المتطرف، ترفض وجود المهاجرين، وغالبيتهم من العرب والمسلمين. أصرت ميركل على موقفها في استقبالهم، ولكن اضطرت إلى غلق الحدود بعدها، والاكتفاء بسياسة لم الشمل، بسبب الضغوط الداخلية. البعض يعتقد أن قرار ميركل هذا هو الذي أدى إلى تراجع شعبيتها واضطرارها إلى التنازل عن السلطة، وعدم الترشح مجدداً لقيادة حزبها وبلادها. لكن في الواقع، الحكم في أنظمة ديمقراطية عادة ما يتطلب التجديد، ومن النادر خوض انتخابات حرة ونزيهة والفوز مراراً وتكراراً.أدركت ميركل ذلك، وبطريقتها الدقيقة، قررت أن تخطط لابتعادها بشكل مدروس وتدريجي. وعلى الرغم من أن موعد رحيل ميركل مرتبط بانتهاء ولايتها الرابعة عام 2021، فإن تنازلها عن قيادة حزبها الشهر المقبل سيعني تولي زعيم جديد قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. وإذا كان الزعيم المقبل أحد خصومها العلنيين، فمن المتوقع أن يدفعها للاستقالة مبكراً.خروج ميركل من الساحة السياسية، جاء مع صعود اليمين في دول أوروبية مهمة، مثل النمسا وإيطاليا، بينما مستقبل العلاقة مع بريطانيا مجهول، مع اقتراب خروج لندن من الاتحاد الأوروبي مارس (آذار) المقبل، من دون خريطة طريق واضحة. التحولات الأوروبية تأتي في وقت تتخبط فيه الولايات المتحدة مع إدارة الرئيس ترمب المثيرة للجدل. التحدي الكبير أمام برلين في المرحلة المقبلة تثبيت قوى الوسطية، وعدم السماح لليمين المتطرف باستغلال بعض الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية. من دون ميركل، الوسطية والاتزان الأوروبي يبحثان عن زعيم جديد لملء الفراغ الكبير الذي تتركه المستشارة الألمانية. طموح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بملء الفراغ، يتعثر مع مشكلاته الداخلية، ولكن قد تكون هذه فرصته لإكمال مسيرة حليفته ميركل.
مشاركة :