لم يمر الإعلان عن صدور أول لوحة فنية مصنوعة باستخدام الذكاء الاصطناعي دون أن يثير جدلا، أوحى بأن العالم يتهيّأ لمرحلة جديدة، خطا فيها الذكاء الاصطناعي خطوة أخرى في سياق تقدمه على حساب المهارات الإنسانية. الجدل أخرج الإعلان المشار إليه، من خانة الأخبار الطريفة إلى مصاف التعامل مع التحولات التي تعيشها البشرية. والجدل كان بين مناصرين لأن يكون العمل الفني من صنع برامج تقنية، تستعيض أو تجاوز الأنامل البشرية، التي تعبّر عن الذائقة والأحاسيس والرؤى البشرية للعالم. المناصرون ذادوا عن الفكرة من منطلق أن كل التحوّلات والقطائع الإبستمولوجية والفنية والعلمية لاقت رفضا عارما في البداية، وهو ذات الموقف الذي لاقاه اكتشاف آلة التصوير الفوتوغرافي في الخمسينات من القرن التاسع عشر، اعتبر النقاد أن “الصور كانت مهتزة وأن الإنتاج لا يرتقي إلى مصاف الفن ويضرّ بالفنانين”. اقرأ أيضا: الفنان الحقيقي ليس كائنا ذكيا الرافضون لاقتحام التكنولوجيا علم الفن، والرسم تحديدا، اعتبروا أن البرامج الرياضية والخوارزميات لن تنجح في أن تكون صادقة وأن تنقل ارتعاشات ريشة الفنان، ولن تتوصل إلى تكثيف الأحاسيس الفنية التي يدجج بها كل فنان لوحته أو عمله. بين الرفض والمناصرة، أسئلة أخرى خفية لن تتوقف عن البروز مع التقدم المفترض لهذا التوجه. المسألة تنفتحُ على قضية أخرى ذات علاقة بتوسع مجتمع الاستهلاك على حساب القيم الفنية. الكمبيوتر الذي أودعت في برمجيته 15 ألف رسم بورتريه كلاسيكي من القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين، ليتوصل إلى صنع بورتريه “إدموند بيلامي”، ستتطور قدراته لاحقا ليصبح قادرا على “صنع” الكثير من اللوحات في وقت قصير. ولعل المسافة الكبيرة بين كمبيوتر يصنع لوحة، وبين فنان يبدع عملا، تختصر التحوّل الذي نحن بصدد عيشه. الفن الذي تطور تدريجيا، وعلى مسار طويل من التاريخ، من مرحلة الرسم في الكهوف البدائية ومحاكاة المعتقدات والأساطير ويوميات البشر، يتعرض اليوم إلى منافسة شرسة من كمبيوتر أو من برمجية، ما يذكر بصرخة هيغل الشهيرة “مات الفن وولدت الإستطيقا”، وهي الصرخة التي أعلن فيها الانتقال من فلسفة الجمال إلى علم الجمال. تذكير يوحي بأننا نعيش نظيرا معاصرا لها مفاده أنه “مات الفن وولدت التكنولوجيا”. المجموعة الفرنسية “أوبفيوس” (Obvious) التي تقوم باستخدام الذكاء الاصطناعي لخلق أعمال فنية، تقول على لسان مصممها، بيير فوترل، إنه قد يتسنى لكلّ فرد في المستقبل المنظور صنع لوحته الخاصة مع مثل هذه البرمجية. لكن “هذا الامتياز سيكون حكرا على أغنى الأغنياء” على حدّ تعبير فوترل. وهذا لا يعني فقط التورط في صنع فن على مقاس طبقة معينة، بل أيضا يمكن أن يطال مسائل أكثر أهمية ودقة من قبيل أن المستهلك يمكن له أن يشترط مسبقا المعايير الفنية الواجب توفرها في العمل الفني. فضلا عن كون المسألة ستطرح إشكاليات قانونية متشابكة وكثيرة من نوع من هو الرسام الفعلي، البرمجية أم المنظمة؟ وهل يمكن المطالبة بحقوق التأليف عند نسخ الرسم؟ اقرأ أيضا: مبدع يخترع مبدعا.. أين الغرابة؟ الواضح أننا إزاء مرحلة موسومة بالتحولات الكبرى ستنتج أسئلتها المصاحبة لها، والتي تتصل دائما بكل منعرج كبير، وفي هذا التحول تظل تخوفات الفنانين وكل من يؤمن بالإبداع الإنساني، مشروعة ومكتسبة لوجاهة كبيرة، ذلك أن هذا التحول الذي نعيشه قد لا يتوقف عند حدود “صنع″ لوحة ببرمجية أو معادلة رياضية، بل قد يتوسع ليطال فنونا أخرى، ولعل ذلك قد بدأ يظهر في السينما والموسيقى، ولا نستغرب أن يصل إلى الشعر أو غيره من الفنون. الكمبيوتر الذي صنع لوحة فنية ذيّلها بتوقيع هو عبارة عن معادلة رياضية، لن يحيل الرسام على التقاعد، لكنه سيصنع إشكاليات فكرية ونقدية وفنية متداخلة؛ من نوع اضطراب الانتماء إلى المدارس الفنية المعروفة وذائعة الصيت، ذلك أن الكمبيوتر لن يضيره أن “يلعب” بميزات تلك المدارس ويدمجها ويستنسخ منها عملا فنيا هجينا، ما يعني أن تصدع التصنيفات الفنية التي احتاجت لقرون من العمل النقدي. هل يمكن لبرمجية حسابية أن تصنع قطعة فنية؟ هذا ليس سؤالا يهم الفن فقط، بل هو سؤال عن المستقبل، مستقبل الإنسان؛ باثا أو متقبلا.
مشاركة :