في العام 1954 وكانت «تجديدات» نيكيتا خروتشيف لم تزل بعد في طي الغيب وإن كان رحيل ستالين في العام السابق قد أوجد ثغرات في جمودية النظام السوفياتي، واعداً بالمزيد خلال السنوات المقبلة، وجد الكاتب الذي كان معروفاً قبل ذلك بأنه الأكبر أهمية والأكثر موهبة بين المثقفين السوفيات المؤيدين النظام، إيليا إهرنبورغ، وجد نفسه من دون مقدمات تقريباً بالنسبة إلى العالم الخارجي، بطلاً في نظر كبار المنشقين وعلى رأسهم الناقدة فريدا فيغودوروفا والكاتب إفيم إيتكند اللذان سيُعرفان بكونهما أول المنشقين وسيدفع كل منهما الثمن على طريقته بعد قليل. ويعود الفضل في ذلك إلى رواية كان إهرنبورغ قد أصدرها في ذلك العام بالذات هي «إذابة الجليد» التي سيستند إليها المنشقّان في تمردهما الأدبي بوصفها مرجعاً حقيقياً في مجال حرية التعبير ولكونها تعلن نهاية العصر الستاليني في مجال الإبداع. والحقيقة أن هذه الرواية سوف تعير عنوانها لكل تلك المرحلة التي عاشت فيها الفنون السوفياتية لحظات انفراج رائعة وقد تخلصت من ظل ستالين الثقيل. ونحن إذا كنا استخدمنا تعبير «دون مقدمات» أول هذا الكلام قد يتعين على القارئ أن يلاحظ كيف ألحقناه بكلمة «تقريباً». وذلك بالتحديد لأن «إذابة الجليد» لم تأت من العدم، بل كان من الواضح أن إهرنبورغ قد أنجز كتابتها أو التفكير فيها قبل موت ستالين لينتظر اللحظة المناسبة لنشرها واعتبارها أول عمل أدبي يؤرخ لمرحلة ما بعد ستالين. أما قيمتها فتأتي أيضاً من كون كاتبها كان معروفاً بقربه من النظام وبكونه في حد ذاته سلطة أدبية كبيرة في بلاده. > انطلاقاً من هنا إذا كان في الإمكان تعريف الشاعر والكاتب السوفياتي إيليا إهرنبورغ بعبارة واحدة، فإن من المستحسن لهذه العبارة أن تكون: «هو المعادل الأدبي والفكري لما كانه نيكيتا خروتشيف في المجال السياسي». فإذا كان خروتشيف قد خلف ستالين ليقيم هذا الأخير من قبره ولا يقعده بتقريره الشهير الذي فضح مثالب الستالينية والخطايا الكبرى التي اقترفت طوال ما يقرب من نصف قرن كانت هي عمر الاتحاد السوفياتي حتى ذلك الحين، فإن إيليا إهرنبورغ كان واحداً من أوائل الكتاب الذين امتشقوا العلم ليبدأوا عصر إذابة جليد أدبي يشبه عصر إذابة الجليد السياسي الذي بدأه خروتشيف. > والأهم من هذا هو أنه إذا كان خروتشيف قد انتظر ثلاث سنوات فصلت بين موت ستالين والمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي (1956) قبل أن يقدم تقريره الشهير، فإن إهرنبورغ لم ينتظر طويلاً، بل إنه أصدر في 1954 أي في العام التالي مباشرة لوفاة ستالين، تلك الرواية التي ستصبح الأشهر بين أعماله، بل مرجعاً يستند إليه كل المنشقين في دفاعهم عن حرية الأدب والفن والتعبير عموماً، أي «إذابة الجليد»، التي افتتحت عصراً جديداً من الأدب السوفياتي وفضحت الفترة السابقة، ثم أعارت اسمها لكل العملية النقدية والنقضية التي نسفت الستالينية من أساسها. ومع هذا، قد يمكن القول أن الرواية لم تكن ثورية ولا شديدة الجرأة. كانت منطقية في الأقل في استعادتها الروح الروسية، حيث قالت بين أشياء كثيرة قالتها أن الروح الروسية، بغثها وسمينها، لم تختف تحت وطأة الستالينية، حيث كان كثر يؤمنون بذلك الاختفاء، لا سيما مسؤولي اتحاد الكتاب الروس الذين حاربوا الرواية منذ صدورها وقد خافوا أن تخلق تياراً أدبياً يلغي وجودهم في ذاته. > وتتحدث الرواية عن مدينة صناعية سوفياتية صغيرة تعيش حياتها البيروقراطية ويعيش مهندسوها بخاصة - وهم يشكلون الجزء الأكبر من شخصيات الرواية - حياتهم وصراعاتهم الصغيرة فيما الخوف يتأكلهم في كل لحظة وثانية. لكن تلك الصراعات والأنانيات التي كان يمكن أن تكون ميكانيكية وحزبية، سرعان ما تتكشف في علاقتها بالإنسان الروسي نفسه أكثر مما في علاقتها بالإنسان السوفياتي. وهكذا تستعاد صور الحب/ الشغف المعهود لدى دوستويفسكي أو تولستوي. وتغزو الأهواء وضروب التطرف التي تملأ آداب القرن التاسع عشر الساحة، إنما من دون ثرثرة زائدة من المؤلف. كل شيء يبدو هنا أنه استعاد ماضيه، حتى تُختتم الرواية برسالة يبعث بها المهندس سافتشنكو إلى خطيبته وهو في رحلة يقوم بها مع وفد من رفاقه المهندسين إلى باريس. فإذا بتلك الرسالة، ومن خلال الوصف الذي يقدمه سافتشنكو فيها للحياة الباريسية والمقارنات التي يعقدها من دون أن يبدو متعمداً ذلك، إذا بها تقول كل شيء... لا سيما كم أن صمت المبدعين الروس خلال المرحلة الستالينية كان ظلماً لهم وللأدب الروسي ككل. وكيف أن ذلك الصمت غيّب كل ما له علاقة بالروح الروسية الهائجة من جهة وبمتعة الحياة من جهة أخرى. > والحال أن إهرنبورغ كان له، في ما كتبه، من الصدقية ما لم يكن لغيره. وذلك بكل بساطة لأنه لم يكن، أصلاً، من المنشقين، ولا من الذين طاولتهم براثن ستالين وجدانوف أو بوليس بيريا السياسي. كان بالأحرى ابناً من أبناء النظام ورمزاً من رموزه الأدبية. من هنا، كان له في مكانته ما جعل كل ما قاله عن المرحلة الستالينية، بل عن التاريخ السوفياتي يلقى آذاناً صاغية، ويساهم في تمهيد الأذهان لتقبل ما جاء به خروتشيف بعد عامين. > صحيح أن الرقابة السوفياتية التي تساهلت مع إهرنبورغ طوال ما تبقى من سنوات الخمسين، عادت ومارست قمعاً على بعض اعماله اعتباراً من العام 1963، غير أنها لم تتمكن من النيل منه شخصياً، وبالتحديد لأنه كان على الدوام رمزاً كبيراً من رموز الأدب الرسمي. من هنا، حين رحل إهرنبورغ العام 1967، شّيّع كبطل من أبطال الاتحاد السوفياتي واعتبرته الصحافة السوفياتية واحداً من كبار الكتاب السوفيات في القرن العشرين. والحقيقة أن إخضاع أدب إهرنبورغ وشعره للفحص الدقيق اليوم قد يكون من شأنه أن ينسف هذه الفكرة، لكن هذا لا يمنع من القول أن دوره في الحياة الادبية والصحافية كان كبيراً، لا سيما خلال عمله مراسلاً حربياً لصحيفة «الازفستيا»، وصحيفة «النجم الأحمر»، حيث كتب، وهو مشارك في الحرب الإسبانية، بعض أبدع التحقيقات عن تلك الحرب. > ولد إهرنبورغ العام 1891 في مدينة كييف الأوكرانية، لكنه أمضى طفولته في موسكو، ثم أمضى جل شبابه في باريس. وهو سافر إلى العاصمة الفرنسية بعد أن كان اعتقل في موسكو في 1907 بسبب «نشاطات تخريبية» وانتمائه إلى تنظيمات شيوعية. وفي، باريس اختلط الكاتب الشاب بأوساط الثوريين الروس المنفيين، كما اختلط بالأوساط الأدبية التقدمية في باريس، حيث نشر أول أشعاره، كما كتب أولى مقالاته الصحافية. وهو عاد إلى روسيا في 1917 إثر انتصار الثورة البولشيفية، وساهم في النهضة الأدبية والفكرية، غير أنه سرعان ما شعر بالحنين إلى باريس وحياتها الصاخبة فتوجه إليها في 1921 كمراسل لصحيفة الدولة الرسمية. وفي باريس، خاض الكتابة الصحافية والأدبية في وقت واحد، وتابع الحياة الفكرية وساهم في النقاشات الفكرية التي سادت العاصمة الفرنسية حول النظرة إلى الاتحاد السوفياتي، والتي أثارتها كتابات أندريه جيد. في أواسط الثلاثينات، توجه إهرنبورغ إلى إسبانيا لتغطية حربها الأهلية، ثم عاد إلى فرنسا، مكللاً بالغار الأدبي لأن كتاباته حول تلك الحرب جعلته بطلاً حقيقياً وأكسبته شهرة ومكانة كبيرتين. لكن بقاءه في فرنسا، هذه المرة، لم يطل، إذ إنه اضطر للعودة إلى موسكو إثر الغزو الألماني لفرنسا. وفي موسكو، راح من جديد يخوض الكتابة حول الحرب ما جعله يُعتبر واحداً من ألمع الصحافيين السوفيات على الإطلاق. وفي الوقت ذاته، واصل كتابة الشعر والرواية وبدأت رواياته تنتشر على نطاق واسع. ويقسم النقاد أعماله عادة إلى ثلاث مراحل: مرحلة الثلاثينات حين أصدر «زفاف موسكو»، بخاصة «مغامرات خوليو خورونيتو الغريبة»؛ ثم مرحلة ما بعد الحرب الثانية، بالكتابة الروائية السياسية المباشرة وكان من أبرز نتاجاته «سقوط باريس» (1941) و «العاصفة» (1947) و «الأسطول التاسع» (1951). أما المرحلة الثالثة فمرحلة إذابة الجليد التي صار فيها سيداً من سادة الأدب الناقد للممارسات الستالينية، وهي الفترة التي بدأها بـ «إزالة الجليد»، وواصل خلالها الكتابة، مستفيداً من مناخات ليبرالية جديدة سادت خلال بدايات العهد الخروتشيفي، وكان من أبرز ما كتبه خلال تلك الفترة نص «النبات والرجال» الذي نشره مسلسلاً في «نوفي مير»، وكان أشبه بسيرة ذاتية له تحدثت عن نصف قرن من تاريخ سوفياتي كان من الواضح أن إهرنبورغ لا ينظر إليه بعين الرضا. alariss@alhayat.com
مشاركة :