بيروت – أراد الفنان اللبناني محمد عبدالله في معارضه السابقة كما في معرضه الأخير المقام حاليا بصالة “آرت لاب” البيروتية أن يبقى على اتصال مع نبض الحياة اليومية للناس العاديين المنهمكين بأعمالهم، أو المتجولين في الشوارع على درجات نارية أو سيرا على الأقدام، وإن كانت مسيرته الفنية عابقة بمحاولات مُضاعفة، إذ جعل معرضا تلو آخر الاختزال البصري والتقشف في التعبير عن أي فكرة أو شعور مضمون اللوحة الواحدة، وهو في معرضه اليوم والذي يحمل عنوان “بيروت الجميلة” قد بلغ حدا بالغا في الاختزال. قدم الفنان التشكيلي اللبناني محمد عبدالله مجموعة من اللوحات الجديدة في صالة “آرت لاب” البيروتية تأخذ الزائر بعيدا عن أجواء الأزمات في لبنان والمنطقة، لم يكن ما وجدناه في الصالة مفاجئا، فمن المعروف عن الفنان موقفه من الفن التشكيلي الذي لم يأخذ بأساليبه التعبيرية يوما، إلاّ وهو بتماس مع الواقع دون الغوص في الأجواء الدرامية التي لم ينكر حضورها الفنان اللبناني يوما. وبالرغم من حضور الألوان القوية في مجمل لوحاته، وتلاصقها مع بعضها البعض فالفنان استخدمها بأسلوب يرقى إلى هدوء غريب الأثر وصولا إلى عين الناظر إليها، لا شيء يحدث في لوحة عبدالله، والكثير يحدث في آن واحد، الصخب اليومي حاضر، ولكن الفنان عرف كيف “يدجنه” ليجعل منه احتفالا صامتا ومُسالما لا قلق فيه. تبدو بيروت فعلا جميلة في لوحاته، هي كذلك لمن لم يزل يستطيع عزلها عن غبار وسخام الإنهاك والملل من الضربات المُفسدة المتعاقبة عليها، يصر محمد عبدالله على رؤية صفائها، لا بل على صقله وتلميعه حد الهوس. وربما لأجل ذلك تبدو لوحاته من ناحية وكأنها “مُعقمة” ولا تشوبها شائبة واحدة، ومن ناحية أخرى غير عاطفية، بل باردة برودة ألوان لا تريد أن تعكس أي انطباع يُمكن توصيف درجاته أو إحالاته، وفي هذا السياق تذكرنا لوحات الفنان ما قاله يوما الشاعر الفرنسي بول إلوار إن”الحب في العالم، هو لنسيان العالم”، هكذا يأخذنا الفنان بحبه إلى مدينة بيروت العارية/ الصافية نحو نسيان العالم بكل ما يحتدم فيه من اضطرابات. يجدر الذكر أن الفنان عايش الحرب اللبنانية ولا يزال يعايشها في ظروفها المُتحولة إلى أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، بيد أنه استطاع أن يخلق معادلة خاصة به تمكنه من الاستمرارية كإنسان قادر على رؤية جوهر الأشياء والإبداع في النظر إلى الواقع عبر التقاطه للحظاته الهانئة وسط الصخب، صخب شكّله على النحو الذي يريده هو ولا تفرضه عليه خشونة الواقع. ويحضر في اللوحات بائع الخضار المنهمك بتصفيف بضاعته الناصعة والنظيفة، ويحضر بائع البالونات الملونة الذي كان يصادفه الفنان كثيرا على خط شارع المنارة، يقف حاملا بالوناته وكأنه واحد منها، وتفوح خفة غريبة الشكل في أرجاء اللوحة هذه وتنعش أواصرها زرقة سماوية لا تعرج لوني أو خطي واحد فيها، وربما تكون هذه اللوحة من أجمل اللوحات المعروضة. ويحضر بائع الكعك ووراءه خلفية وردية اللون تعبر فيها مشحات تقارب البياض ولا تنغص حضوره الطاغي، وفي المعرض أيضا لوحات تصور الجالسين على مقاعد إلى جانب بحر ساكن التحم مع السماء الصافية. اختزال بصري لا يخلو من رمزيةاختزال بصري لا يخلو من رمزية تلعب خلفية جميع اللوحات دورا أساسيا في إرساء هذا التوازن الداخلي/ البطولي الذي برع الفنان في نقله إلى روح الناظر إلى لوحاته، فقد سكبها محمد عبدالله سكبا كُليا بلون واحد لا تدرجات ولا خيالات فيه، تعددت ألوان الخلفيات ليبقى الصمت سلطانها الوحيد. أما الخيالات أو الظلال في لوحات محمد عبدالله فتستحق دراسة منفردة، حضورها قوي ويكاد أن يكون قائما بذاته، وقد يجد المُشاهد في أشكال الظلال أشكالا أخرى لا تمتّ إلى مصادرها بعلاقة وثيقة، ظلال تفرض ذاتها بقوة في اللوحات، تذكر المُشاهد بأن الوقت هو وضح النهار وأن الشمس موجودة في مكان ما، موجودة، ولكن ليس كعنصر طبيعي بقدر ما هي شريكة الفنان في رسم ظلال مُغايرة على هواه وليس وفق الشروط الطبيعية الدقيقة التي تتحكم بالأبعاد والأحجام. ثمة لوحات للفنان يبدو فيها الظل عنصرا أساسيا وليس الشكل المُفترض أن يكون مصدره، ظل بائع البالونات الذي يشبه لعبة “الليغو” الشهيرة وليس البائع، ظل عربة الكعك الشبيه بمحراب قديم وظل إطار الدراجة الموقعة للالتباس وليس بائع الكعك. وعلى الرغم من أهمية تلك الظلال تقف أو تتحرك شخوص محمد عبدالله بوضوح خارق تكسّرت عليه أشعة شمس هندسية تذكر كثيرا ليس بالفن التكعيبي، ولكن بالفن الديجيتالي الذي يفك شيفرة الضوء ويترجمه إلى وحدات لونية محسوبة بالتمام والكمال. تكاد تخلو لوحات الفنان من الانعطافات اللونية والخطوط المنحنية والأشكال المستديرة، ربما تحضر، ولكن في خجل كبير، لا سيما في اللوحات التي يرسم فيها رجالا ونساء. وعلى زائر المعرض أن يتمعن كثيرا فيها ليخرجها من مواقعها. انعطافات وتكورات وانسيابات دائرية سيعثر عليها المُتلقي “مقموعة” هنا أو هناك في اللوحة ووجب استخدامها، ربما على مضض، استجابة لقوانين تشكيلية أساسية تفترض أن “لا وجود لخط مستقيم في الطبيعة”، هذا التعامل المُجحف مع الاستدارات يميّز نص الفنان التشكيلي بشكل لافت. وعند نهاية الجولة في المعرض، يبقى سؤالان بارزان عالقان في الذهن: إلى أي مدى سيمعن محمد عبدالله في أعماله التالية بعيدا في الاختزال والتسطيح والتقويم المُسلخ بالضوء؟ وهل ستستجيب له الأشكال أم سيجد الفنان نفسه غارقا في تجريد يخرجه تعبيريّا من مضمون نصه الواقعي المباشر؟
مشاركة :