على الرغم من نقص تمويل المشاريع الفضائية وإثارة تكلفتها الباهظة للكثير من الجدل، لا سيما مع جهل العديد من الأشخاص لجدواها، فإن هذه البعثات أفرزت كمّا هائلا من التقنيات المتطورة المستخدمة في استكشاف الفضاء، أسفرت عن تغيير جذري لنمط الحياة اليومية على الأرض. ساهم التنافس المحتدم في مجال الفضاء سابقا بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في إطار الحرب الباردة، في ابتكارات تكنولوجية مذهلة أحدثت ثورة في تغيير مسار الحياة على كوكب الأرض. لكن في السنوات الأخيرة تراجع الإنفاق الحكومي على تمويل مشاريع استكشاف الفضاء، ما أدى إلى دخول شركات من القطاع الخاص لملء الفجوة، واشتد التنافس في ما بينها على هذه الآفاق الاستثمارية الخصبة، على أمل جني الأرباح من خلال إنشاء صناعة سياحة الفضاء، والتعدين من الكويكبات القريبة، وتوفير إقامة دائمة وباكتفاء ذاتي تام على القمر والمريخ. “هذه خطوة صغيرة للإنسان ولكنها قفزة عملاقة للبشرية”، جملة شهيرة تحمل في طياتها العديد من المعاني للإنسانية، رددها رائد الفضاء الأميركي نيل آرمسترونغ حين وطأت قدماه أرض القمر، أرض بكر لم تطؤها قدم إنسان من قبل. وخطفت عملية الإنزال تلك الأضواء وتركت لدى المشاهدين في جميع أنحاء العالم انطباعات ملؤها الإعجاب، ومثلت بداية كتابة صفحة تاريخية جديدة عنوانها “ترويض الفضاء لصالح المجتمع البشري”. وكانت تلك المغامرة الجريئة، والتي انطوت على تحديات هندسية جمة، نتاج منافسة محتدمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في خمسينات وستينات القرن الماضي. واستمرت مسيرة استكشاف الفضاء بعد ذلك ولكن بشكل أعمق لتشمل عوالم أخرى بالفضاء الخارجي، وأضحى العلماء يتطلعون إلى البحث عن الحياة خارج كواكب النظام الشمسي وسبر أغوار الكون الغامض واللامتناهي، من خلال إرسال تليسكوبات ومسابير فضائية لتمثل عيون الإنسان في الفضاء الفسيح. ومن بين الرحلات الفضائية غير المأهولة والأكثر جرأة نذكر على سبيل المثال، إرسال وكالة ناسا مؤخرا مسبار باركر على مقربة لم يسبق لها مثيل من الشمس، لفهم طبيعة الرياح الشمسية وكشف سر حرارة النجم الملتهب التي تصل إلى مليون درجة ومراقبة تفاعلاته عن كثب. وعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي يكتسيها قطاع الفضاء لتحفيز مسيرة الابتكار للدول وتطوير قدراتها العلمية والمعرفية والتقنية، تثير التكلفة الباهظة للمشاريع الفضائية أحيانا الكثير من الجدل. وقدرت الكلفة النهائية لبرنامج “أبولو” الذي أتاح هبوط البشر على سطح القمر بـ25.4 مليار دولار، وقدرت كلفة مشروع المسبار العلمي كيريوسيتي الذي هبط على سطح المريخ سنة 2012، لدراسة المقومات الأساسية للحياة على الكوكب الأحمر، بـ2.5 مليار دولار، ومحطة الفضاء الدولية التي تعد مخبر التجارب الفضائية والبيولوجية والفيزيائية وصلت تكلفتها إلى 150 مليار دولار. وكالة الفضاء الأميركية ناسا سجلت أكثر من 1600 ابتكار تكنولوجي في العديد من المجالات بفضل غزو الفضاء ويبدي العديد من السياسيين تحفظا تجاه التكاليف المرتفعة لمشاريع الفضاء، ويرى البعض أن إنفاق مليارات الدولارات على تلك البرامج ليس أخلاقيا في ضوء ما يعانيه الكثير من الناس حول العالم من الجوع والأمراض والفقر والتشرد. ويرون أنه من الأجدر صرف الأموال في الرعاية الصحية والتعليم والغذاء والسكن والبرامج الاجتماعية، والتي هي في أمسّ الحاجة إلى تلك الأموال. ويبقى السؤال المطروح دائما لدى عامة الناس عن جدوى وفوائد مشاريع استكشاف الفضاء لترصد لها ميزانيات ضخمة وتستحوذ على الاهتمام المتزايد لدى المجتمع العلمي وبعض الأطراف السياسية. ولكن ما هو جدير بالذكر، إذا ما ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ علم الفضاء منذ أول قمر صناعي “سبوتنيك 1” أطلقه الاتحاد السوفييتي سابقا إلى يومنا هذا، سنكتشف أن غزو الفضاء مثّل محفزا تكنولوجيا خصبا للغاية، والتقنيات المتطورة المستخدمة في استكشاف الفضاء اندمجت في نسيج حياتنا اليومية، وأسفرت عن تغيير جذري لنمط الحياة على كوكب الأرض. وتشير التقديرات إلى أن وكالة ناسا الأميركية التي احتفلت مؤخرا بالذكرى الستين لتأسيسها، سجلت أكثر من 1600 ابتكار تكنولوجي في العديد من المجالات بفضل غزو الفضاء. ومن بين الابتكارات التكنولوجية التي ساهمت في تحفيز عجلة التطور، وإثراء حياة الفرد والمجتمع، نستعرض على سبيل الذكر، التطبيقات العديدة للأقمار الصناعية والتي يوجد منها الآلاف في مدارات حول كوكبنا، وهي تتيح توفير خدمات الاتصالات، وقنوات التلفزيون الفضائية، والأرصاد الجوية، ورسم الخرائط، وأنظمة تحديد المواقع المدمجة في الهواتف الذكية والسيارات والطائرات. وإضافة إلى ذلك، تساعد الأقمار الصناعية الخبراء على دراسة جودة الهواء والتربة، وعلامات تغيّر المناخ مثل ذوبان الجليد وارتفاع المياه، وتمهد السبيل لرصد أنشطة الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وغيرها. وتساهم بدرجة ملموسة في مراقبة الغلاف الجوي للأرض وخاصة طبقة الأوزون التي تحمي الكائنات الحية من الأشعة فوق البنفسجية، التي تصل أضرارها أحيانا إلى التسبب في العديد من الأمراض كسرطان الجلد وإرباك الجهاز المناعي للإنسان. وأكدت ناسا مؤخرا خبرا سارا يتمثل في انكماش وتقلص في ثقب طبقة الأوزون من خلال صور الأقمار الصناعية. ويعزى هذا التحسن لـ”بروتوكول مونتريال” الذي وقعت عليه جميع دول العالم في عام 1985، والمتمثل في الحظر العالمي للمواد الكيميائية الضارة من قبيل مركبات “كلوروفلور كربون”، ويشير العلماء إلى أنه من الممكن أن يلتئم الثقب ويتعافى تماما بحلول عام 2060. وأدت كذلك الحاجة الماسة لتطوير وتصغير الآلات الحاسبة الموجودة على المسابير الفضائية إلى ظهور أجهزة كمبيوتر محمولة ومعالجات دقيقة وبرمجيات متطورة تساهم في رفاهية البشر وتساعدهم في عملهم. ووقع تعديل العديد من تقنيات الفضاء لتتكيّف مع المجال الطبي، مثل مضخة مساعدة البطين، المستخدمة في القلوب الاصطناعية، وهي عبارة عن جهاز ميكانيكي داعم للدورة الدموية وقابل للزرع داخل الجسم، ومشتق من مضخات الوقود لمكوك الفضاء، ويقول العلماء إن تدفق الدم عن طريق المضخة يماثل ما يحدث في محرك الصاروخ. أما أجهزة غسيل الكلى فقد طورت استنادا لنظام إعادة تدوير السوائل المستخدم في برنامج “أبولو”. الابتكارات التكنولوجية ساهمت في تحفيز عجلة التطور، وإثراء حياة الفرد والمجتمع وصمّمت كاميرا أشعة “غاما” أساسا للكشف عن الإشعاعات الكونية في الفضاء، وأجريت عليها تعديلات لمساعدة الأطباء على معرفة مدى انتشار الورم السرطاني في الصدر. وأجهزة الميكروويف التي تم تطويرها لرواد الفضاء توجد في أغلب مطابخنا، ومادة التفلون المستخدمة لحماية الأقمار الصناعية، نظرا لما تتمتع به من مقاومة حرارية وكيميائية ممتازة، تم تكييفها للمواقد والمقالي المنزلية. وخلقت الأنشطة الفضائية منتجات وأسواقا لا تحصى تؤتي أكلها هنا على الأرض، ومع ذلك يتراجع الإنفاق الحكومي على تمويل البعثات إلى الفضاء. ولسد الفراغ دخلت شركات من القطاع الخاص في هذا المجال، وقد يعطي ذلك دفعة إيجابية باتجاه تطوير جيل جديد من التكنولوجيا الفضائية، وإيجاد سبل لخفض تكلفة النقل الفضائي ودفع عجلة استكشاف الفضاء للمضي قدما من جديد. وهناك طموح جامح يهدف إلى إقامة طويلة الأمد فوق القمر وبناء فنادق فضائية على سطحه، واستغلاله كمنصة للبحث العلمي، وقاعدة مثالية لغزو كواكب أخرى. وفي ضوء الاستنزاف المستمر للموارد الطبيعية على الأرض والمهددة بالنضوب، يراود العلماء حلم التنقيب عن الثروات الطبيعية والمعادن الثمينة التي تزخر بها الكويكبات المجاورة السابحة في الفضاء. ومن بين الشركات التي تأمل في جني الأرباح من خلال غزو الفضاء، شركة “بلو أوريجين” التي تم تأسيسها سنة 2000 من الملياردير جيف بيزوس، مؤسس شركة أمازون، وأغنى رجل في العالم. وتهدف الشركة إلى تطوير صواريخ قابلة للاستخدام المستمر، ونجحت في السنوات الأخيرة في تجربة هبوط آمن لأحد الصواريخ التي أطلقتها. وأعلن بيزوس أن الشركة سترسل سائحين في رحلات نصف مدارية، وتأمل في المستقبل في توفير إقامة دائمة للبشر على سطح القمر. وتسعى أيضا شركة سبايس إكس ومؤسسها إيلون ماسك إلى إرسال البشر إلى الفضاء في رحلات سياحية ترفيهية، وأعلنت في وقت سابق من العام الجاري أن الملياردير الياباني يوساكو مايزاوا سيكون أول من يرسل في رحلة من هذا النوع، ويبقى الحلم والتحدي الأكبر للشركة هو استيطان المريخ. أما شركة “فيرجن غالاكتيك” التي أسسها الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون، فتعتزم تقديم رحلات فضائية ومدارية خاصة وبدأت في بيع التذاكر مقابل 250 ألف دولار للتذكرة الواحدة. ويعد قطاع الفضاء اقتصادا ضخما وأرضا خصبة للاستثمار والعمل، ومع دخول الشركات الخاصة خط المنافسة، سيشهد القطاع درجة أعلى من الابتكار والنجاح، ما يساهم في فتح آفاق جديدة للبشرية وتحقيق ما يعد بتحسين حياة الفرد والمجتمع.
مشاركة :