انتهز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، لدعوة قادة عشرات الدول إلى «نبذ الانطواء والعنف» وتغليب الحوار والتعددية. جاء ذلك في كلمة عاطفية وسياسية ألقاها أمام حوالى 70 من قادة دول، بينهم الرؤساء الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان والمستشارة الألمانية أنغيلا مركل والعاهل المغربي محمد السادس ورئيسا الوزراء الكندي جوستن ترودو والإسرائيلي بنيامين نتانياهو، خلال تجمّعهم عند قوس النصر المشرف على جادة الشانزيليزيه في باريس، والذي أُقيم تحته قبر الجندي المجهول وشعلة لا تنطفئ، تذكيراً بالنزاع الذي أوقع 18 مليون قتيل. وشهد الاحتفال محطات رمزية، بينها تلاوة طلاب في المرحلة الثانوية مقاطع ممّا كتبه محاربون قدامى، ألمان وفرنسيون وبريطانيون، لدى علمهم بالهدنة، وعزف النشيد الوطني الفرنسي ومقطوعة موسيقية ليوهان سيباستيان باخ، إضافة إلى أغنية أدتها أنجيليك كيدجو تكريما لـ «القوات الاستعمارية» الفرنسية. واختُتم الاحتفال بعزف موسيقيين شباب مقطوعة «بوليرو» للموسيقار موريس رافيل الذي كان متطوعاً خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد انتهاء المراسم التي أشرف 10 آلاف عنصر أمن على حمايتها، استقبل ماكرون القادة على مأدبة غداء في قصر الإليزيه، ثم شاركوا في منتدى من أجل السلام غاب عنه ترامب، علماً انه يسعى إلى تعزيز نهج تعدّدي للأمن والحكم وتجنّب الأخطاء التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقالت مركل إن المنتدى يُظهر أن «هناك إرادة، وأتحدث هنا بالنيابة عن ألمانيا وبقناعة تامة، لفعل كل شيء من أجل تحقيق نظام أكثر سلمية في العالم، على رغم أننا نعلم أنه ما زال لدينا كثير من العمل لننجزه». وتحدث ماكرون في خطابه بتأثر وخشوع عن أهوال الحرب، معدّداً عواقبها، من ضحايا ودمار ومآس. كذلك استحضر محطات جولته التذكارية الأسبوع الماضي على مواقع شهدت معارك عنيفة خلال الحرب في شرق فرنسا، علماً أن آثارها ومعالمها لا تزال قائمة. وشدد على أهمية الذاكرة من أجل كرامة الضحايا وكي «نحيا أحراراً»، وحضّ على «التعهد بأن ننقل لأولادنا العالم الذي حلِم به أسلافنا». وأضاف: «دعونا نوحّد آمالنا بدل أن نضع مخاوفنا بعضنا في مواجهة بعض. يمكننا معاً التصدي لتهديدات متمثلة في شبح الاحتباس الحراري وتدمير البيئة والفقر والجوع والمرض وعدم المساواة والجهل». وروى لدى تجوّله على مواقع الحرب كيف «تتداخل في المقابر الجماعية رفات الجنود الألمان والفرنسيين الذين تقاتلوا ذات شتاء قارس من أجل أمتار من الأراضي»، وتابع: «دعونا نتذكر! يجب ألا ننسى بعد مئة سنة على مجزرة لا تزال آثارها مرئية على وجه العالم. خلال تلك السنوات الأربع كادت أوروبا تنتحر». وأشاد بـ «رجاء حمل جيلاً كاملاً من الشباب على القبول بالموت، والأمل بعالم يعمّه السلام مجدداً أخيراً»، وزاد: «في قارتنا الصداقة بين ألمانيا وفرنسا. هذا هو الاتحاد الأوروبي، اتحاد تمّ برضى حرّ لم يشهد التاريخ مثله، يحرّرنا من حروبنا الأهلية. تلك هي منظمة الأمم المتحدة». وشدد ماكرون على أن «الدرس المستفاد من الحرب العالمية لا يمكن أن يكون الاستياء بين الناس، ويجب عدم نسيان الماضي». ودعا باسم الوفاء لذكرى «القافلة الهائلة من المقاتلين الذين أتوا من أنحاء العالم لأن فرنسا كانت تمثل في نظرهم كل ما في العالم من جمال»، إلى نبذ «الافتتان بالانطواء والعنف والهيمنة». وحذر من أن «الشياطين القديمة تُبعث مجدداً، مستعدة لنشر فوضى وموتاً»، مندداً بذهنية «تغذي الحقائق المضادة وتقبل المظالم وتؤجّج التطرف والظلامية». وأضاف: «الوطنية هي النقيض التام للقومية. القومية خيانة للوطنية وتقويض لركائز الأمّة وقيمها. التاريخ يهدد أحياناً بتكرار أنماطه المأسوية وتقويض إرث السلام الذي كنا نعتقد بأننا وقّعناه بدماء أسلافنا». ولفت إلى أن الدرس لا يكمن «في حقد نصبّه على الآخر ولا بنسيان الماضي، بل بالتفكير في المستقبل وبما هو ضروري». وأكد أهمية السلام و «ذهنية التسوية والحوار، للتوصل إلى زمن تفاهم». وختم خطابه قائلاً إن «تجمّع الأخوة» في ذكرى مئوية الهدنة «يجب ألا يكون ليوم»، مشدداً على ضرورة «خوض معركة السلام من أجل عالم أفضل». في الوقت ذاته، أحيت بريطانيا والهند وأستراليا ونيوزيلندا الذكرى التي قُتل فيها أكثر من 150 ألفاً من مواطنيهم. وكتب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على «تويتر»: «لم تكن هذه حرباً تشارك فيها الهند في شكل مباشر، إلا أن جنودنا خاضوا الحرب في العالم من أجل السلام». وتحدث رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون عن تضحية كبرى قدّمها مواطنوه في ساحات معارك في أماكن بعيدة، مثل فرنسا. وقال: «من أجل الغد الخاص بنا، قدّموا حاضرهم. في صمت، نلزم أنفسنا بالوقوف إلى جانب الذين عادوا إلى ديارهم».
مشاركة :