قبل عام 1755، كان هناك، في بريطانيا خصوصاً، نمط شديد الكرم من رعاية الأثرياء للكتّاب والمفكرين والمبدعين. وهذا أمر يمكن ان يدركه بسرعة، كل من يقرأ سيرة حياة واحد من أكبر شعراء الإنكليز والعالم ويليام شكسبير، حيث نعرف ان كل عمل من أعماله يحمل اعترافاً ما، بأنه ما كان يمكنه ان يوجد لولا رعاية هذا الكونت أو ذاك، ولولا كرم هذا النبيل أو ذلك الدوق. ونظام الرعاية هذا كان سائداً على أي حال في طول أوروبا وعرضها، بل يمكن حتى لمن يتبحر في تاريخ الثقافة والمثقفين في زمن الحضارة الإسلامية، ان يدهش لكثرة ما يحكى من روايات عن تلك العلاقة الرعائية بين الأعيان والمبدعين. في بريطانيا، أتى العام 1755، إذاً، ليضع حداًّ لذلك... وتحديداً عبر رسالة كتبها المفكر الإنكليزي صمويل جونسون اتت رداً على لفتة كريمة كان ابداها تجاهه ذلك النبيل الذي كان اعتاد ان يرعى كتبه وأفكاره من قبل، الكونت تشسترفيلد. والحكاية هذه طويلة يوردها جميس بوزويل كاتب سيرة جونسون ونختصرها بأنها تتعلق بواحد من افضل إنجازات صمويل جونسون الفكرية، أي «قاموس اللغة الإنكليزية» الذي كان المؤلف، عند بداية السنوات الثماني التي استغرقها عمله على القاموس، قد توجه الى الكونت راعيه طالباً منه المساعدة، فتمنع هذا. جونسون الديموقراطي لم يرَ مغبة في التمنع. لكنه لاحقاً، حين صدر «القاموس» ونال كل النجاح الذي حققه، لم يتردد، إذ أعلن تشسترفيلد عن تقويمه الكبير للعمل ورغبته في مساندته من الآن وصاعداً، عن رفض ذلك العرض قائلاً في رسالة بعث بها الى الكونت ان نظرة هذا الأخير الى جونسون بوصفه «الناظم الحقيقي للغة الإنكليزية» اتت متأخرة جداً، أي في وقت لا يعتبر جونسون نفسه فيه في حاجة إليها، لذلك «أشعر باللامبالاة التامة حيالها، ولا أرى انها تبعث لدي أي سرور». وهكذا، عبر رسالة صمويل جونسون تلك، تحرر المفكرون والأدباء من قيود الرعاية، كما يقول بوزويل. > طبعاً سقنا هذه الحكاية هنا لنشكل بها مدخلاً للحديث عن القاموس نفسه، العمل الذي يتجاوز في اهميته اهمية ذلك الظرف. وحسبنا للتيقن من هذا ان جونسون، حين قرر ان يضع قاموساً للغة الإنكليزية، إنما كان يسير في مشروعه على خطى تجربتين سابقتين، اولاهما في إيطاليا والثانية في فرنسا. ففي البلدين، شهدت بداية القرن الثامن عشر ولادة مشاريع قاموسية جدية وجديدة همّها تنقية اللغة من كل شائبة، وتقعيدها في شكل علمي. وكان هذا نفسه ما توخاه جونسون واشتغل عليه، مع فارق اساس: في إيطاليا وفرنسا، قامت اكاديمية تضم عشرات الكتّاب والمفكرين والباحثين في العمل. اما في برطيانيا، فكان القاموس من نتائج جونسون وحده. ولنضف الى هذا ان العمل على كل من القاموس الإيطالي، ونظيره الفرنسي، استغرق عشرات السنين، بينما أنجز جونسون قاموسه بمفرده ومن دون أي عون. > حتى اليوم، لا يزال الباحثون ومؤرخو اللغة ينظرون الى «قاموس اللغة الإنكليزية» هذا، بوصفه العمل الأكمل في مجاله، ذلك ان جونسون لم يشأ ان يكون فقط تقنياً، بل تجاوز هذا بكثير، إذ رغب في ان يجعل من عمله ضابطاً للغة الإنكليزية، ناظماً لنحوها وصرفها، وكذلك مؤرخاً لصيرورتها واشتقاقاتها - وهذا لا يقل اهمية - منظفاً لها من كل ما دخل إليها من تعابير «بربرية» وفق تعبيره في ذلك الحين، ثم مبسطاً لسياقها مركزاً على البعد الصوتي الواحد في معظم الكلمات التي اشتغل عليها. ولئن كان هذا كله يبدو لنا عادياً اليوم، وكأنه يصف كل القواميس المهمة في العالم، فإنه في زمن صمويل جونسون كان أمراً بالغ الجدة، بل هرطوقياً بالنسبة الى قوم كانوا يربطون اللغة بقداسة ما. بالنسبة الى جونسون، اللغة هي المعبّر الأساس عن الحياة، وكما ان الحياة تتطور وتتنقّى في كل لحظة، كذلك علينا أن نلتقط اللغة في كل لحظات تطورها وتبدلها. > أصدر صمويل جونسون الطبعة الأولى من قاموسه في العام 1755، معلناً في المقدمة التي وضعها له، أهدافه في لغة تعبر عما كان يكنه من حب لهذه اللغة، ولقد قال جونسون في تلك المقدمة، انه ما أقدم على ذلك المشروع إلا بعدما تيقن ان اللغة الإنكليزية بلغت من الكمال، مستوى لم يعد جائزاً معه، تركها من دون تقعيد وتنظيم، ثم خصوصاً من دون «تنظيف». وحدّد جونسون انه لم يعنِ بهذا ان غايته تحسين اللغة. فاللغة لم تعد، في رأيه، في حاجة الى أي تحسين. الأمر كما لو أن أمامنا لوحة عظيمة، علق بها غبار من هنا، سوء فهم من هناك، رطوبة من هنالك. وبات الأمر يتطلب لإظهار رونقها، بعض الجهد. وهذا الجهد هو الذي استغرق جونسون كل تلك السنوات، التي سيصفها بوزويل لاحقاً، استناداً الى جونسون نفسه، بأنها كانت من ألطف وأعمق سنوات حياته. > بيد أن اللافت هنا، أن صمويل جونسون، خلال السنوات التي اشتغل فيها على قاموسه، كان يعود في شكل متواصل، الى كلمات كان اشتغل عليها من قبل، ليعيد العمل عليها... إذ، حتى خلال ذلك الحيز القصير نسبياً من الزمن، كانت اللغة لا تتوقف عن التطور. ولكن أين كان جونسون يلاحظ ذلك التطور؟ أولاً في الحياة العامة وفي حلقات الحكي العادي... ولكن أيضاً، وبصورة خاصة، في النتاجات الأدبية والفكرية، حيث بالنسبة اليه، حين يستخدم كاتب أو مفكر، كلمة ما، فإن هذا الأخير قد يستخدمها في شكل مغاير لاستخداماتها السابقة. وذلك هو الإسهام الكبير الذي يقدمه المبدعون في مسار اللغة وحياتها. وهنا نلاحظ كيف ان جونسون أخذ حتى ما يسمى «الأخطاء الشائعة» في حسبانه ولم يعتبر معظمها أخطاء. والحقيقة ان هذا الأمر يذكرنا هنا بحكاية تروى عن الشاعر اللبناني الأخطل الصغير: ذات يوم اتصل صحافي معروف بالأخطل الصغير ليستفزه قائلاً له، ان صديقك أمين نخلة يقول ان هناك هذا الخطأ وهذا الخطأ وهذا الخطأ في شعرك ولغته فما رأيك؟ وكان جواب الشاعر: قل لصديقي أمين انها كانت أخطاء! ويعني طبعاً، انه بعد استخدامه لها يجب أن تصبح قواعد ثابتة. > المهم ان قاموس صامويل جونسون صار المعتمد في اللغة الإنكليزية منذ ذلك الحين. لكن هذا لم يكن كل شيء، إذ ان التجديد الأساسي الذي أدخله جونسون فيه، صار بسرعة قاعدة تحتذى في وضع القواميس. وهذا التجديد الذي نعنيه هنا هو إيراد أمثلة وأقوال مأثورة وأبيات من الشعر، مع العدد الأكبر من الكلمات الأساسية، بحيث يصبح لكل كلمة مثل ملموس يوضح معناها وتطورها، وربما حتى مستقبلها. > يعتبر صمويل جونسون (1709 - 1784) من كبار المفكرين والكتّاب الإنكليز، ناهيك بأنه يعتبر، في اللغة الإنكليزية، ثاني كاتب بعد شكسبير يستشهد الناس والمفكرون بجمل وعبارات مستقاة من كتاباته وأقواله. ولقد عاش جونسون في زمن لندني تشبّع بحكمته، وتأرجح بين السياسة والأدب والفكر الفلسفي... غير ان المشهور عنه ان معظم أعماله وأهمها لم يكتبها هو بنفسه بل كتب نقلاً عنه. غير ان هذا لا يمنع من القول ان كتباً لجونسون، من بينها قاموسه الذي نتحدث عنه هنا، ومن بينها «حكاياته الشرقية»، تؤمن وجوداً خاصاً له في نصوصه، حتى وإن كان وجوده الأساس يبقى، من ناحية في ذاكرة المثقفين الإنكليز، الذين ينقلون عنه وعن صالونه حكايات مدهشة، ومن ناحية ثانية في كتاب سيرته الذي وضعه تلميذه وصديقه بوزويل واشتهر بأنه كان البداية الحقيقية لفن كتابة السيرة كما عرفتها العصور الحديثة. وكان هذا الكتاب من الشهرة والقوة - ولا يزال - الى درجة ان كثراً من المؤرخين يميلون الى التأكيد ان صمويل جونسون له فيه باع يفوق باع بوزويل في انجازه.
مشاركة :