كانت انتخابات التجديد النصفي التي أجريت مؤخرا في الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر خسة وقذارة وانحطاطا في حياتي، وستكون لها عدة تداعيات وخيمة. فقبل البدء في الإعلان عن النتائج في الساعة الأخيرة من ليلة يوم الثلاثاء كنا نعلم جيدا الأطراف التي ستخرج خاسرة.. الشعب الأمريكي وثقافتنا السياسية. إن الخطاب التقسيمي الذي انتهجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيظل يعيش بيننا ويقض مضاجعنا لجيل قادم من الزمن. لقد حثنا المستشارون المقربون من الرئيس دونالد ترامب على التركيز على الأخبار الجيدة المتعلقة بالاقتصاد خلال الأسابيع الأخيرة من الانتخابات. أما الرئيس دونالد ترامب فقد فضل التركيز على خطاب التخويف من أجل تحقيق مكاسب سياسية وانتخابية، وظل يستهدف في خطابه «قافلة» اللاجئين القادمة من شمال جواتيمالا أملا في الفرار من أتون العنف والفقر المدقع في بلادهم. أفاد المراسلون المكلَّفون بتغطية تلك القافلة بأن أغلب أولئك اللاجئين من الأمهات اللائي كن برفقة أولادهن وبناتهن في مقتبل أعمارهم. أما ترامب فقد صورهم في خطبه بأنهم «في مثل خطورة أفراد العصابات العنيفين»، مع حرصه على إضافة بعض القادمين من الشرق الأوسط تحقيقا لبعض التوازن. فقد اعتبرهم «غزاة»، كما اعتبر محاولتهم لدخول أراضي الولايات المتحدة الأمريكية «عملا حربيا». أعلن الرئيس ترامب أيضا أنه قرر إرسال مجموعة من الجنود من أجل حماية الحدود الأمريكية. لقد ظل ترامب يعزف على وتر الخوف وكرر عبارة «الغزو» كما أن عدد الجنود الذين أرسلتهم إدارته إلى الحدود مع المكسيك قد ارتفع من 2000 إلى 5000 قبل أن يقفز إلى 15 ألف جندي. ظل الرئيس ترامب يطوف مختلف أرجاء البلاد على مدى ثلاثة أسابيع ويخطب في التجمع الانتخابي تلو الآخر من أجل تعبئة أنصاره للتصويت لصالح المترشحين الجمهوريين. لقد راح يحذر من عواقب انتخاب الديمقراطيين وتمكينهم من الفوز – فقد يتم عزله وقد تغص البلاد بالمهاجرين الخطرين وينهار الاقتصاد (رغم أن مسيرة انتعاش الاقتصاد وخلق أعداد هائلة من فرص العمل قد بدأت منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما). كما حذَّر ترامب أيضا من أن فوز الديمقراطيين سيجعلنا أقل أمنا وأمانا ويعرضنا لمزيد من الضرائب، كما حذر من أن الديمقراطيين إذا انتصروا في الانتخابات فإنهم سيواجهون معارضيهم بكل عنف. شكَّل الخوف الرسالة الرئيسية التي اعتمدها ترامب وسعيا منه لإيصال هذه الرسالة أنتج ترامب إعلانا تلفزيونيا دعائيا ظهر فيها مجرم متورط في سلسلة من جرائم القتل أثناء وجوده كمهاجر غير قانوني في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أظهر الفيديو مجموعة من الأمريكيين اللاتينيين وهم يحاولون إزالة جدار غير معروف والدخول عنوة إلى الأراضي الأمريكية. كانت الرسالة واضحة «هؤلاء هم الناس العنيفون الذين يريد الديمقراطيون السماح لهم بدخول بلادنا. عليكم أن تخافوا، بل عليكم أن تخافوا كثيرا». تتمثل المشكلة في أن المجرم الذين ظهر في هذا الفيلم الدعائي قد تم ترحيله من الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون غير أنه استطاع العودة إلى الولايات المتحدة وارتكب جرائمه في ظل إدارة جورج بوش. لا تكمن المشكلة في الخداع الذي انطوى عليه الفيلم الدعائي، بل تكمن في تلك اللغة العنصرية التي جعلت المحطات التلفزيونية ترفض بثه – بما في ذلك محطة فوكس نيوز المفضلة للرئيس ترامب نفسه. لقد اعتبر المسؤولون الإعلاميون التنفيذيون أن ذلك الإعلان «أكثر الإعلانات الدعائية عنصرية في تاريخ الحملات الانتخابية». لقد نجحت رسالة الخوف هذه إلى حد كبير. فرغم بعض المزاعم الغريبة والمشوهة التي رددها ترامب في المؤتمر الصحفي بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات فقد أصاب مع ذلك في أحد ملاحظاته. فقد ثبت أن تدخله في الانتخابات خلال الأسابيع القليلة الماضية قد أحدث الفرق وأسهم في مساعدة بعض الجمهوريين على تحقيق الفوز. قبل قيام ترامب بجولته عبر الولايات المتحدة الأمريكية كان الزخم الكبير من جانب الديمقراطيين. فقد عزف ترامب كما يحلو له على وتر الخوف وراح يحذر مرارا وتكرارا من العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن انتصار الديمقراطيين، مكَّن زحف للأجانب الخطرين واستشراء العنف وانهيار الاقتصاد الأمريكي. لقد فعل دونالد ترامب لكن ذلك كان على حساب ديمقراطيتنا الأمريكية. اعتبرت نتائج الانتخابات غير مؤكدة حيث إن نتائج بعض السباقات الانتخابية ظلت غير مؤكدة ولا يمكن الجزم بنتائجها النهائية. وقد تبين بعد ذلك أن الديمقراطيين قد أبلوا بلاء حسنا في هذه الانتخابات. فقد انتزعوا السيطرة على مجلس النواب من الجمهوريين وحصلوا على 230 مقعدا في مقابل 205 مقاعد للجمهوريين بعد أن كان الجمهوريون يسيطرون على 235 مقعدا في مقابل 193 مقعدا للديمقراطيين. انتقلت سبع ولايات من الجمهوريين إلى الديمقراطيين كما فاز الديمقراطيون بقرابة 300 مقعد إضافي على مستوى مجلس البلديات. وفي المقابل، حقق الجمهوريون بعض المكاسب المحدودة واستطاعوا الفوز بمقعدين إضافيين في مجلس الشيوخ الأمريكي. وبعيدا عن نتائج الانتخابات والإحصاء النهائي لأعداد الفائزين والخاسرين فإنني أخشى أن حالة الاستقطاب الحزبي قد تعمقت أكثر من أي وقت مضى بعد عامين أمضاهما ترامب في منصب الرئاسة وسلوك ترامب في الأسابيع الأخيرة. هناك بعض القضايا الخلافية التي لاتزال تفرق بين الجمهوريين والديمقراطيين، لكن الأهم من ذلك كله أن الديمغرافيا هي التي أصبحت تحرك الحزبين أكثر ما تحركهما الأفكار. من الجانب الديمقراطي، فإن هناك عنصري الشباب والمتعلمين في الجامعات، وخاصة منهم النساء والأقليات الإثنية في الولايات المتحدة الأمريكية. أما الناخبون الذين يصوتون للحزب الجمهوري فهم من متوسطي العمر وأبناء الطبقة من البيض الأقل تعليما وأصحاب الأسلحة والبيض الذين يسمون أنفسهم «مسيحيون ولدوا من جديد». يبدو وكأننا قد أصبحنا عبارة عن قبيلتين في حالة حرب. في الحقيقة، فإن الهجمات في هذه الحرب قد جاءت في أغلبها من جانب واحد. فقد ظل الجمهوريون على مدى عقود كاملة يوجهون رسائلهم إلى الناخبين البيض ويؤججون مخاوفهم من السود واللاتينيين والمسلمين والعرب. لقد ظل الجمهوريون يحذرون من المخدرات والجريمة والعنف والهجرة باستخدام كلمات مشفرة يربطونها مع هذه الجماعات العرقية المذكورة أعلاه. اتخذ الديمقراطيون موقفا مغايرا بالدفاع عن الجماعات المستهدفة، من أجل تعبئتهم للتصويت للديمقراطيين ووضع سياسات رصينة تهدف إلى معالجة القضايا التي تهمهم. لم يسع الديمقراطيون بالمقابل لوضع سياسات ترمي إلى تنفيذ حملة انتخابية يخاطبون من خلالها الناخبين البيض من أبناء الطبقة الوسطى والذين يغازلهم دائما دونالد ترامب والحزب الجمهوري. لقد تخلى الديمقراطيون عن الناخبين البيض من الطبقة العاملة وتركوهم لدونالد ترامب وأسهموا بشكل غير مباشر في إذكاء الحرب القبلية التي باتت تغلب على ثقافتنا السياسية. لا يراودني أي أمل في إمكانية أن يتغير الحزب الجمهوري في ظل أوضاعه الراهنة. لذلك يجب على الديمقراطيين أن يعملوا على رأب الصدع وتضييق هوة الانقسامات التي باتت عميقة في عهد دونالد ترامب. ليس المطلوب من الجمهوريين أن يتوقفوا عن القيام بأي شيء بل المطلوب منهم هو إبداء الاهتمام بفئة لا يستهان بها من أولئك الناخبين الذين يستغل الجمهوريون شعورهم بعدم الأمان الاقتصادي والثقافي والخوف من «الآخر» من أجل تحقيق مكاسب سياسية. إن مثل هذه السياسة من شأنها أن تساعد الديمقراطيين على الفوز في مزيد من السباقات الانتخابية وتسهم من ثم في رأب هوة الانقسامات حتى يسهل مرة أخرى حكم الولايات المتحدة الأمريكية. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :