بعد قطيعة دامت قرابة أربعة عقود بالتمام والكمال بسبب الحرب الأهلية اللبنانية عام 1978، مثّل لقاء سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية برئيس تيار المردة سليمان فرنجية حدثا تاريخيا جاء مرفوقا بعدة أسئلة في المشهد السياسي اللبناني بشأن إمكانية أن ينهي هذا اللقاء الفريد القطيعة بين الطرفين ويطوي صفحة تاريخية موجعة من تاريخ مسيحيي لبنان في وقت يعرف فيه البلد أزمة سياسية خانقة بعدم التوصل إلى تشكيل الحكومة. بيروت - اتجهت الأنظار في لبنان، الأربعاء، نحو الصرح البطريركي في بكركي حيث تم اللقاء، برعاية البطريرك الماروني بشارة الراعي، بين رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، ورئيس تيار المردة، سليمان فرنجية. واعتبر المراقبون أن الحدث يطوي صفحة مؤلمة من تاريخ المسيحيين الحديث وينهي حقبة من القطيعة بين الزعيمين الشماليين. وتعود أسباب القطيعة إلى فترة الحرب الأهلية اللبنانية حين قامت قوات من حزب الكتائب المسيحي يقودها جعجع بمهاجمة مقر آل فرنجية في مدينة إهدن في 13 يونيو 1978. وأدت العملية إلى ما عرف بمجزرة إهدن التي طالت عائلة سليمان فرنجية فتسبب الهجوم في مقتل والد فرنجية ووالدته وشقيقته البالغة من العمر سنتين ونصف السنة وأكثر من ثلاثين من أنصاره. وعلى الرغم من أن لغطا ثار حول ظروف الواقعة، لا سيما لجهة نفي جعجع، الذي أصيب وفقد وعيه في تلك المعركة، أي مسؤوليه مباشرة له أو حتى أي قرارا سياسي مسبق بارتكاب الأمر، إلا أن الحدث عمّق جروحا داخل مسيحيي الشمال بين إهدن وبشري (مسقط رأس جعجع)، وبقي هذا الجرح حائلا دون أي تطبيع في العلاقات بين المنطقتين على المستويين الرسمي والشعبي. مسيرة المصالحة بدأت مسيرة المصالحة بين سليمان فرنجيّة وسمير جعجع منذ سنوات. كُلّف الوزير السابق يوسف سعادة من قبل فرنجيّة وطوني الشدياق من قبل جعجع بالملف. حصلت لقاءات عدّة بين الرجلين وتطوّرت العلاقة، قبل أن تتدهور مع ترشيح الرئيس سعد الحريري لفرنجيّة إلى رئاسة الجمهوريّة. تعطّلت حينها المصالحة بين معراب (مقر جعجع) وبنشعي (مقر فرنجية)، لتتسارع أكثر المصالحة بين الرابية (مقر عون) ومعراب. إلا أنّ أبرز محطة في العلاقة بين الرجلين، قبل المصالحة الأربعاء، تبقى مصافحتهما في بكركي على هامش القمّة المارونيّة التي دعا إليها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في 19 مايو 2011. وتأتي المصالحة بين جعجع وفرنجية، بعد ثلاث سنوات على المصالحة المسيحية الأخرى التي جرت بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، بين جعجع والجنرال ميشال عون، عام 2015. ورغم أن هذه المصالحة تم تجسيدها داخل وثيقة أطلق عليها يومها اسم “ورقة النوايا”، إلا أن تلك المصالحة تعرضت لتجربة قاسية أثناء وبعد الانتخابات النيابية الأخيرة، ولتجارب أقسى أثناء مداولات تشكيل الحكومة التي لم تر النور حتى الآن. المصالحة بين جعجع وفرنجية مبنية على حسابات ستؤثر على الخارطة السياسية اللبنانية الداخلية، فالرجلان مرشحان سابقان لرئاسة الجمهورية وآثر فريقا القوات والمردة التوصل إلى مصالحة سياسية بعد مفاوضات طويلة دون تتويج ذلك بأي اتفاق سياسي. وأدرج الفريقان “وثيقة بكركي” التي قدمت بصفتها بيان المصالحة في إطار متسلسل بدأ منذ إبرام اتفاق الطائف مرورا بمصالحة الجبل والمصالحة بين القوات والتيار الوطني الحر. ويقول مقربون من الطرفين، أن هدف المصالحة ليس التأسيس لتفاهمات جديدة داخل المشهد السياسي المسيحي، بل ترسيخ ثقافة السلام والحوار السياسي على قاعدة احترام الاختلاف. وينتمي سليمان فرنجية إلى تيار 8 آذار ويعتبر نفسه حليفا لحزب الله وصديقا شخصيا للرئيس السوري بشار الأسد. ولم يخف فرنجية يوما خياراته السياسية في دعم نظام دمشق والتحالف مع “المقاومة”. وكان فرنجية وزيرا للداخلية حين تم اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005. بالمقابل ينتمي سمير جعجع إلى مدرسة فكرية مختلفة داخل المارونية السياسية متأثرة باليمين الذي كان حزب الكتائب الذي انتمى إليه من أكبر أحزابه. وتنطوي المصالحة بين الطرفين على حسابات ستؤثر على الخارطة السياسية اللبنانية. فالرجلان مرشحان سابقان لرئاسة الجمهورية. تداعيات التقارب سبق لجعجع أن طرح اسمه مرشحا للموقع عن تحالف 14 آذار، وسبق لفرنجية أن حاز على دعم زعيم تيار المستقبل سعد الحريري لتبوء هذا الموقع. ويتحدث المراقبون عن أن مسارعة جعجع إلى المصالحة مع عون ودعمه لرئاسة الجمهورية، كان الهدف منها قطع الطريق على خصمه الشمالي سليمان فرنجية للوصول إلى قصر بعبدا. وعلى هذا يعتبر المحللون أنه من المبكر الحديث عن الكيفية التي ستذهب بها الأمور في الانتخابات الرئاسية في عام 2022. وتعتبر مراجع سياسية مسيحية أن المصالحة بين جعجع وعون، قد تشكل عائقا مهما أمام فرص رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل في الوصول إلى قصر بعبدا. وتعتقد العديد من الاوساط المراقبة أن باسيل هو المرشح الطبيعي للتيار الوطني الحر بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي. وفي سياق العلاقة بين التيار الوطني الحر والمردة قال فرنجية، الأربعاء، “لسنا مختلفين مع التيار الوطني الحر وعندما يستدعينا الرئيس عون نحن جاهزون”. ورداً على سؤال “هل أصبح الوصول إلى الرئاسة أسهل بعد المصالحة”، قال فرنجية: “بعد 4 سنوات الله بيعرف شو بدّو يصير”. توسيع القاعدة السياسية المسيحية قد تشكّل رافعة مسيحية جديدة أكثر توحدا تضعف من قدرة حزب الله على التسرب من شقوق انقساماتها ويجتمع جعجع وفرنجية على معارضة باسيل. وأن حزب القوات اللبنانية انتهج خطابا لا يؤدي إلى قطيعة مع التيار الوطني الحر ويسقط المصالحة وورقة النوايا، إلا أن مصادر القوات حمّلت باسيل مسؤولية التدهور في علاقات الطرفين، وأكدت تمسكها بالتحالف مع الرئيس عون ومتعهدة دائما بدعم عهده. ورغم أن الحريري تخلى عن دعم فرنجية لصالح دعم عون للرئاسة، إلا أن فرنجية تفهم الأمر، وأعلن قبل أسابيع في مقابلة تلفزيونية، أن حزب الله وحده هو من انتزع منه هذا المنصب لصالح عون، مؤكدا تمسكه بالتحالف مع حزب الله بصفته “المقاومة”. وتأتي المصالحة المسيحية-المسيحية متواكبة مع أزمة تشكيل الحكومة التي أخذت طابعا أكثر حدّة منذ التصريحات العنيفة المهددة التي أدلى بها الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله السبت، والرد الذي قام به رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري في مؤتمره الصحافي، الثلاثاء. وفيما لن تتداعى هذه المصالحة مباشرة على مسار تشكيل الحكومة، إلا أن موقف الطرفين من حزب الله، الذي اتهمه الحريري بالمسؤولية عن عرقلة التشكيل، قد يؤثر على طبيعة المصالحة. وفي التعليق على مصالحة جعجع فرنجية قال الحريري “المصالحة بين القوات والمردة صفحة بيضاء تطوي صفحات من الألم والعداء والقلق. نبارك لسليمان بك فرنجية وللدكتور سمير جعجع هذا الحدث الكبير الذي تكلل برعاية البطريرك الراعي”. ورأى سياسيون أن أي مصالحة داخل المشهد المسيحي السياسي تشكل قلقا لدى حزب الله في المستقبل. ويضيف هؤلاء أن الموقف من قضية تمثيل سنّة 8 آذار (أحدهم عضو في التكتل البرلماني لفرنجية) قد أدت إلى تباين في النظرة إلى الأمر بين حزب الله والرئيس عون. ويعتبر هؤلاء أن هذا التباين قد يكون شكليا مؤقتا، إلا أنه قد يؤسس لبداية تشقق بين منطق الميليشيا ومنطق الدولة التي يرأسها عون ويدافع عن منطقها تياره برئاسة باسيل. ويضيفون أن حظوظ فرنجية في تبوء منصب الرئاسة سيتطلب منه الاتساق مع المزاج الداخلي العام المختلف عن مزاج حزب الله، كما الاتساق مع مصالح لبنان الإقليمية والدولية التي قد تجعله يعيد قراءه العلاقة مع حزب الله. ويخلص هؤلاء إلى أن توسيع القاعدة السياسية المسيحية قد تشكّل رافعة مسيحية جديدة أكثر توحدا تضعف من قدرة حزب الله على التسرب من شقوق انقساماتها.
مشاركة :