عالجنا في مقالنا الماضي في «الحياة» «التطرف كنموذج للتفكير العقلاني» (28 كانون الأول - ديسمبر 2014) ظاهرة التطرف الإيديولوجي، وقمنا بتعريف التطرف وتحدثنا عن منابعه الأساسية، ونماذجه البارزة. وترد أهمية دراسة هذا الموضوع إلى أن نموذج التطرف الديني الذي يصدر عادة عن تفسيرات متشددة للنصوص المقدسة وعن نظرة دونية إلى الآخر المختلف غالباً ما يكون أحد أسباب تحول بعض فئات المتطرفين الدينيين إلى إرهابيين، لا يتورعون عن ممارسة أفعال القتل الفردي والجماعي الذي قد يصل إلى نوع من حروب الإبادة، كما يفعل تنظيم «داعش» في سورية والعراق، ليس فقط ضد المختلفين معه في الدين مثل المسيحيين، بل ضد المسلمين من الشيعة أيضاً. وفي مجال تفسير ظاهرة المتطرفين إيديولوجياً هناك نظريات سائدة تصف سلوكهم بعدم العقلانية، خصوصاً حين يجنحون إلى الإرهاب الصريح مع ما يترتب عليه من ضحايا يقتلون أو منشآت تفجر. ويصل عدم العقلانية عند بعض الإرهابيين إلى تفجير أنفسهم إيماناً منهم بالصواب الكامل لمعتقداتهم، وكأن عقائدهم – مهما كانت نوعياتها- تمتلك الحقيقة المطلقة! غير أنه لفت نظري – في قراءاتي العلمية الأخيرة - ظهور نظرية حديثة ترى في التطرف من ناحية والإرهاب من ناحية أخرى استراتيجية عقلانية في صراع القوة بين أنصار السلطة ومعارضيها من الجماعات المتطرفة، ومن أبرزها الآن الجماعات الجهادية. كنت قد قرأت موجزاً لهذه النظرية على شبكة الإنترنت لصاحبها، وهو أستاذ كندي اسمه رونالد وينتروب. واكتشفت أن لهذا الباحث كتاباً كاملاً أفاض فيه في رسم معالم نظريته المثيرة. ونظراً إلى أننا في عصر العولمة فقد استطعت شراء نسخة من الكتاب من شبكة «أمازون» للكتب، ووصلني بعد أربعة أيام فقط من طلبه! والكتاب عنوانه «التطرف العقلاني» وله عنوان فرعي لافت للنظر حقاً هو «الاقتصاد السياسي للاتجاهات الراديكالية» ونشرته مطبعة جامعة كامبردج عام 2002، وصدرت له نسخة شعبية عام 2012. ورغم أن الكتاب حافل بالمعادلات الرياضية لأن مؤلفه أصلاً أستاذ للاقتصاد، إلا أنه والحق يقال يتسم بسلاسة شديدة في عرض المنهج المبتكر الذي وضعه لتفسير ظاهرة التطرف. من الفصل الأول والذي عنوانه «مشكلة التطرف» أريد أن أقتبس السطور الأولى لكي يتضح للقارئ الوضوح الفكري الذي يتمتع به المؤلف وقدرته على إيصال أفكاره بصورة سلسلة. يقول وينتروب «تبدو الحركات المتطرفة غالباً بحسبانها غامضة ومخيفة وغير عقلانية. فالمتطرفون مثل أسامة بن لادن يقال إنهم مختلفون عنا فهم يوصفون بكونهم شخصيات معقدة ومنحرفة ومتطرفة أو ببساطة هم أشرار». ولعل أحد الأسباب لهذا الاتجاه حجم الخراب المهول الذين يستطيعون إحداثه بأفعالهم الإرهابية، كما حدث في أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، والسبب الآخر هو العقل ذو البعد الواحد لقادة المتطرفين. ومع أن قادة الجماعات المتطرفة يظهرون باعتبارهم يتسمون بالتصلب في أفكارهم إلا أن تطرف أنصارهم يبدو أكثر إشاعة للخوف من هؤلاء القادة. والمؤلف – من فرط موضوعيته - لا يقتصر في حديثه عن الجماعات الجهادية الإسلامية فقط لأنه يشير إلى الجماعات الإرهابية التي ظهرت في المجتمعات الغربية وفي مقدمها المجتمع الأميركي، حيث ظهرت جماعة «كوكلوكس كلان» المناهضة للسود الأميركيين، وجماعة «جون بيرشن» ولا ينسى الإشارة في هذا الصدد إلى «المكارثية» التي نشطت في أميركا في الخمسينيات لملاحقة المثقفين اليساريين. وحتى لا نستطرد في ذكر النماذج التي يسوقها للجماعات المتطرفة - والتي يذكر من بينها الأصوليين اليهود في إسرائيل من ناحية وأتباع حركة «حماس» في فلسطين من ناحية أخرى - نريد أن نركز على منهجه في تفسير التطرف والذي يصفه بأنه في الواقع – عكس النظريات السائدة - سلوك عقلاني. يقول وينتروب أنه سيتصدى لبحث مشكلة التطرف انطلاقاً من وجهة نظر الاقتصاد السياسي. ومعنى ذلك أنه يفترض – ابتداء - أن الجماعات المتطرفة وأنصارها عقلانيون. وذلك لأنه إذا وضعنا في الاعتبار الأهداف التي يريدون الوصول إليها فهم يجدّون في البحث عن أنسب الوسائل لتحقيقها. وهو يقول إن الفكرة التي تقول أن المتطرفين عقلانيون ليست جديدة، وذلك لأن الدراسات التي أجريت عن الإرهابيين أنفسهم على مستوى العالم منذ عام 1980 حتى عام 2001 أثبت أن عمليات تفجير الذات نظمت عن طريق حملات منسقة قام بها قادة الجماعات المتطرفة لإقناع أتباعهم بجدواها، حين توجه الى الأهداف التي يحددونها والتي تعتبر أهدافاً ضعيفة يمكن أن تخضع لضغط الرعب الذي يتولد عادة من الإرهابي الذي يفجر نفسه. والدليل على العقلانية أن هذه الحملات التي يقوم بها القادة لإقناع أتباعهم بالتضحية بأنفسهم ليست بالضرورة سياسة دائمة، وإنما هي تخضع لتقدير القادة المتطرفين الذين يحددون متى تبدأ ومتى تنتهي. ومن ناحية أخرى أثبتت بحوث أخرى أن عقلانية الجماعات المتطرفة تظهر في مسألة اختيار الأهداف الضعيفة التحصين لمهاجمتها، على سبيل المثال حين لجأت الحكومات إلى تكثيف الدفاعات عن السفارات التي كانت محلاً لهجوم الجماعات الإرهابية، حولت الجماعات الإرهابية نشاطها لكي تقوم بخطف الطائرات. ويقول وينتروب إنه - في ما يتعلق بالجماعات الإرهابية على وجه الخصوص - فإن وسائل الإعلام لا تغطي عادة سوى أفعالهم العنيفة والرهيبة. غير أن هذه الأفعال المخيفة صممت لبث الخوف والرعب والفزع، ودفع الحكومات إلى التجاوز في الإجراءات التي تتخذها لمواجهة هذه الأفعال. والأمل الذي ترنو هذه الجماعات الإرهابية إلى تحقيقه هو أن ردود الأفعال لهذه الأفعال المخيفة من شأنها أن ترفع أسهم الأفكار والسلوكيات التي يمارسها قادة وأعضاء الجماعات الإرهابية. وفي تقديرنا أن هذه الملاحظة الذكية تصدق تماماً على سلوك «داعش». وذلك لأن هذا التنظيم الإرهابي يحرص حرصاً شديداً على بث الفزع من سلوكه عن طريق تصوير عملية ذبح الرهائن الغربيين على شاشة التلفزيون. ومما لا شك فيه أن هذه الأفعال البربرية التي تسجل بالصوت - حين يرتفع صوت الرهينة مناشداً حكومته التوقف عن مهاجمة «داعش»، وبالصورة حين يشاهد ملايين الناس – بحكم البث الفضائي التلفزيوني- الوقائع الهمجية الخاصة بذبح الرهينة، كل ذلك يؤدي إلى الإحراج السياسي الخطير بالنسبة إلى دولة مثل الولايات المتحدة، والتي تظهر – رغم قوتها العسكرية الفائقة – عاجزة عن حماية مواطنيها. وتصل الملهاة إلى ذروتها – في حرب الدعاية والدعاية المضادة - حين يصرح الرئيس الأميركي أوباما أن التخفيف من خطر «داعش» سيحتاج إلى ثلاث سنوات على الأقل، وأنه لا يمكن للقوات العسكرية البرية منازلة «داعش» عسكرياً لاعتبارات متعددة. ألا يعد هذا – من وجهة نظر التفسير العقلاني لسلوك قادة الجماعات الإرهابية - انتصاراً لـ «داعش» على خصومه من الدول الغربية؟ من ناحية أخرى أثبتت الدراسات الحديثة عجز التفسيرات السيكولوجية التي كانت تقرر أن أعضاء الجماعات المتطرفة أو الإرهابية يتسمون بعدم التوازن النفسي، أو أنهم عادة ما ينتمون إلى الطبقات الفقيرة أو المهمشة. وذلك لأنه ثبت أن أنصار هذه الجماعات – كما هي الحال بالنسبة إلى «داعش» - قد ينضمون دفاعاً عن الفكرة، رغم أنهم ينتمون إلى الطبقات الوسطى أو الثرية. ومن هنا يمكن القول إن التطرف مهما زادت حدته قد يكون من قبيل «المنافسة السياسية» بين السلطة ومن يعارضونها. غير أنه بالإضافة إلى العقلانية كتفسير للجماعات المتطرفة يرى وينتروب أن الانتماء إلى جماعة كبيرة لها أهداف إيديولوجية جذابة لبعض فئات المجتمع ومشاعر التضامن الاجتماعي التي عادة ما تسود بين أعضاء هذه الجماعات تعد تفسيراً إضافياً لسمة العقلانية في سلوك القادة والأعضاء. ورغم جدة هذه النظرية في تفسير السلوك المتطرف، إلا أننا لا نقبل بسهولة أحادية هذا التفسير لأن التطرف -خصوصاً حين يتحول إلى إرهاب صريح - يحتاج إلى نظرية تكاملية تقوم ليس فقط على أساس التفسير السيكولوجي أو السوسيولوجي، ولكن في المقام الأول على أساس التحليل الثقافي. ولذلك حديث آخر. * كاتب مصري
مشاركة :