إذا كانت مكة أحب البقاع إلى الله ثم إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- القائل مخاطبًا البلد الحرام يوم أجبر على مغادرته: (علمت أنك خير أرض الله وأحب الأرض إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). وهو ما تيقن منه علماء الأمة على مر العصور، فكانوا أسرع الناس هجرة إلى مكة ومجاورة المسجد الحرام يتلقون فيه العلم، ويلقون ما تعلموا على غيرهم لذا استحب أكابر العلماء المجاورة بمكة كالإمام الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن القاسم والإمام أحمد بن حنبل وقال: ليت لي الآن مجاورة بمكة، وقال الإمام النووي في الإيضاح، (إن المختار استحباب المجاورة بمكة لما فيها من تضاعف الحسنات والطاعات، وقد جاور بها ممن يقتدى به من سلف الأمة وخلفها خلائق لا يحصون) وقد تمنى النبي -صلى الله عليه وسلم- سكناها وكذا أصحابه وقال حبر الأمة سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنه: أقم بمكة وأن أكلت بها العضاة (السمر)، حتى قيل أن ليس بين العلماء إلا من جاور المسجد الحرام ولو أيامًا، وكل من قدم إليها منهم للحج كان له تواصل مع علمائها يأخذ عنهم ويأخذون عنه ومن كان في مثل سني يدرك هذا وعايشه. وشيخنا الجليل الأستاذ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان المعلوم عنه الاهتمام البالغ بمكة وأماكنها المأثورة المتواترة فيها، وأصدر ذلك في كتاب تفرد به بين العلماء في هذا العصر، وأصبح مرجعًا مهمًا في آثار مكة وتاريخها، كتب بحثًا عن المسجد الحرام الجامع والجامعة غير مسبوق فيه، وأصدر الجزء الأول منه في سنة 1406هـ، وطبع في بيروت وروجته دار البشائر الإسلامية، ثم عاد إليه ليعيد طباعته التي تعني دراسة تفصيلية بذكر المحذوف وإعادة الكتابة لبعض العناصر المختصرة سابقًا، ذلك أن موضوع الكتاب مهم للخاصة والعامة ويستدعي عمق البحث والدراسة المتأنية كما يقول، ويخبرنا أنه بهذا الجهد مارس الكتابة حول هذا الموضوع قديمًا وحديثًا مثل غيره استكمالًا للحلقات الدراسية في الجانب الفقهي لمكة المعظمة عبر كافة القرون الإسلامية. فجاء الجزء الأول جديدًا تلوح موضوعاته بما يشبع نهم المتطلع لتاريخ جامعة المسجد الحرام وجامعه عبر الحديث عن تطوير مساحة المسجد الحرام، وذكر المعالم داخله قديمًا، وحول صحن المطاف وتحدث فيه عن موضوع لم يسبق في الحديث عنه وهو أدبيات المقامات الأربعة، وهو الموضوع الذي كان يثير جدلًا دائمًا وعالجه بحكمة متأنية ليكشف عن وجه الحق فيه، ثم انتقل للحديث عن المسجد الحرام ووظائفه الشرعية من الإمامة والخطابة الإفتاء واستعرض ذلك في النصف الاول من القرن الرابع عشر الهجري، وهو الموضوع الذي أهمل كثيرًا، ولعل كثيرًا من قضاياه قد شوهها البعض عمدًا، فأزال عنها ما علق بها من تشويه وهو العالم المفكر المؤرخ، الذي أمضى العمر كله في البحث والاستقصاء، ثم انتقل إلى الحديث عن التدريس في جامعة المسجد الحرام في النصف الأول من القرن الرابع عشر، ثم النصف الثاني موضحًا الجو العلمي بين المدرسين وبينهم وبين الطلاب، ثم تحدث عن الحركة العلمية للجامعة أثناء الحج، وحشد ذكريات ومآثر علمية، ثم أوضح التبادل العلمي بين مدرسي الجامعة والعلماء القادمين إلى مكة للحج، وبين أهمية مكتبات مكة والتي تمثل معرضًا دوليًا دائمًا للكتاب، وتحدث عن أماكن اللقاء بين طبقات المثقفين المكيين والحجاج والمعتمرين، ثم ذكر موضوعًا مهمًا يجلو الصورة المكية تحت عنوان (جامعة المسجد الحرام والشأن الإسلامي)، بحيث إن الجامعة كانت مصدر يقظة فكرية، ويقظة سياسية في العالم الإسلامي وما كان يمارسه فقهاء الجامعة من الوساطة في بعض شؤون العالم الإسلامي، ثم تحدث عن فقهاء جامعة المسجد الحرام في المذاهب الأربعة السنية والتي كانت المقامات تعتبر إشارة واضحة إليها. وتحدث عن فقهاء المذاهب الأربعة في الجامعة (الجامع) ثم تحدث عن خصائصهم ومزاياهم ونشاطهم داخل المسجد الحرام وخارجه، وداخل البلاد وخارجها، ثم تحدث عن سلوكيات هؤلاء الفقهاء وخصائصهم السلوكية والفكرية، ثم ذكر فقهاء الجامعة وعلاقتهم بالتأليف وذكر بعض ما ألفوا وحلله. وضم إلى الدراسة بعض الموضوعات المهمة ذات العلاقة بالموضوع الأساس واستقل عنها حفاظًا على وحدة الموضوع وتماسكه وتقديم صورة كاملة دون قطع التسلسل الموضوعي للبحث، فذيل بحثه بما أسماه اللواحق. فخص علم المنطق بعرض، وكذلك علم الفلك وكلاهما من دروس الجامعة، ثم قارن بين جامعة المسجد الحرام والجامعة في العصر الحديث، ثم عين الحلقات الدراسية وأماكنها، ثم خص النسيج العمراني لمكة المكرمة بتفصيل وبين أثره في أداء العلماء. ثم حصر ما أمكنه ذلك علماء مكة وأئمة المسجد الحرام وخطباء الجمعة بمكة في أوائل القرن الرابع عشر ابتداء من سنة 1303هـ، وأشار بوضوح إلى الأسر العلمية بمكة في نفس هذا الزمان، وعرض لائحة نظام التدريس في المسجد الحرام عام 1332هـ، والتي جاءت في (11) صفحة، في مقدمة والقسم الأول منه يتعلق بأعضاء هيئة تنظيم أحوال المدرسين وفيه أربع مواد، والثاني: فيما يتعلق بالكاتب والمفتشين وفيه ثلاث مواد، ثم القسم الثالث: فيما يتعلق بالمدرسين المعينين والملازمين وفيه تسع مواد ثم القسم الرابع: فيما تعلق بالتدريس وفيه ثلاث مواد ثم القسم الخامس فيما يتعلق بالطلبة وفيه مادتان، ثم القسم السادس: فيما يتعلق بواردات المدرسين وفيه مادتان، وفي مجمله 23 مادة، ومن يقرأ هذا التنظيم يرى أنه دقيق جدًا. ثم ألحق به ما صدر في نظام للتدريس بعده عام 1345هـ، وفيه ثماني مواد، الاولى تكون هيئة علمية تشرف على التدريس في المسجد الحرام، والمادة الثانية تحدد وظيفتها والثالثة تحدد زمن اجتماعاتها، والرابعة توكل اليها تغيير مواد الدراسة او الزيادة عليها، ونظام التدريس في هذه الثماني أنه يحدد المذاهب الأربعة الفقهية في مجال التدريس، ويجعل وقتًا للوعظ ويلزم المدرسين في تقرير العقائد ومباحث الصفات بمذهب السلف، ويلزم أيضًا ببيان أنواع البدع التي شوهت كما يقول سمعة الدين، ويحدد للدرس زمنًا ويأمر بالمثابرة على الدروس بلا انقطاع، وإذا أخل المدرس بشيء من هذه المواد فاللجنة تقرر في شأنه ما ترى أنه يحقق المصلحة والمقارنة بين النظامين تعطي النظام الأول السبق، وقد جاء كتاب شيخنا في جزءين موثقة معلوماتهما، وأظن أن ما طرحه فيه لم يسبقه أحد في تناوله، فجزاه الله عنا وعن المسجد الحرام أعظم الثواب، فقد سدت ثغرة في المعلومات عن الحركة العلمية فيه مما لم ترد عند غيره والله وحده الموفق للسداد. alshareef_a2005@yahoo.com
مشاركة :