بعد أن اضطرهم نظام بشار الأسد للهجرة من بلادهم، بفعل آلة الموت الرهيبة التي سلطها عليهم، والتي ظلت تسومهم سوء العذاب بشتى أنواعه وأصنافه من قنابل عنقودية وقذائف صاروخية وبراميل متفجرة وأسلحة كيماوية وتعذيب وتقتيل وتشريد، وجد اللاجئون السوريون أنفسهم أمام مشكلات عدة ومصاعب جمة، في مقدمتها توفير لقمة العيش لأبنائهم، في ظل فقدانهم لمصادر دخلهم، أو وفاة عائليهم الذين فضلوا الوقوف في وجه الظلم ومقارعة الطاغية في ميادين القتال. فجأة، وجد ملايين النساء والأطفال الأيتام أنفسهم في مواجهة المجهول، واضطر كثير منهم إلى سؤال الآخرين أو التسول على أرصفة الدول التي فتحت لهم أبوابها ومنعتها ظروفها الخاصة من مد يد العون لهم. لم يجد بعض هؤلاء بدّا من اللجوء إلى صناديق القمامة، وهم الذين عرفهم التاريخ أعزة، ذوي نفوس عالية، ونخوة وشهامة، تفيض أيديهم بالخير، ويفتحون للضيف قلوبهم قبل أبوابهم، وترحب به ذواتهم قبل كلماتهم، لكنها مفردات العصر الحالي، ولغة الواقع، وأزمة الضمير العالمي. ما كان يدور بخلد هؤلاء أنهم سيصلون إلى هذا الحد من التشرد والضياع، وما ظنوا أنهم سيضطرون للهروب من منازلهم، ومفارقة وطنهم، وما كان هذا سيحدث لهم لولا أن سوء حظهم العاثر أوقعهم في طريق الجلاد الظالم، الذي ربما لم يدرك معادن من شاءت له الصدفة أن يجلس على كرسي حكمهم، وهو الذي ما كان يستحق أن يكون مجرد فرد منهم. لكن الشاب الغرير الذي لم يكتسب الحكمة من شيوخ بلاده، ولم يضج صدره بطموح شبابها، ولم ينهل من حضارتها، أو يرتوِ من تاريخها الضارب بجذوره في القدم، ارتضى أن يرهن مستقبل بلاده لتحقيق مصالح الآخرين دون أن يعي أنها كانت ذات يوم عاصمة للخلافة، وأسهمت بقدر كبير في صناعة وترسيخ الثقافة الإسلامية والعربية. سورية التي كانت بالأمس منارة تهدي الحيارى وجدت نفسها تحت رحمة من لا يعرفون قدرها، فكان مصيرها اليوم أن تراجع شأنها بين الأمم، وباتت أمثولة للطغاة، وعنوانا لكل فاشل. 40 عاما كان قدر بلاد الشام فيها أن ترزح تحت حكم من لا يستطيعون العبور أبعد من شواطئ مذهبيتهم، ولا ترى أعينهم أكثر من آفاق طائفيتهم. ركل الأسد كل تاريخ بلاده وضرب به عرض الحائط، وقنع بأن يكون تابعا إلى من كانوا بالأمس يسعون إلى اقتباس قدر بسيط مما كانت تشع به أنوار دمشق. وليت سادة دمشق الجدد كانوا ذوي بصيرة سياسية أو حكمة واقعية، بل كانوا يبحثون عن مجد طواه الزمن، وحضارة عفا عليها تقادم الأيام، فأصبحت أثراً بعد عين "بئر معطلة وقصر مشيد". لكن مواطني سورية القابضين على جمر قضيتهم والمدركين لقدرها سيظلون يحلمون بعودة ذلك الماضي الجميل، وسيدفعون من دمائهم وآلامهم ما يكفي لاستعادة عزهم الآفل، وستشرق عليهم شمس الحقيقة ساطعة لن يحجبها غربال الفاشلين، ولن تغرب بفعل زيف الزائفين.
مشاركة :