بعض الأطفال المصريين ركب باصاته المكيفة وتوجه إلى مدارسه الدولية، وأكل سندويشاته المكونة من البرغر وشرائح الخيار، وأمضى حصة الرياضة في المسبح أو ملعب التنس. أما بعضهم الآخر، فانحشر مع المئات في ميكروباص متهالك أو مترو مخنوق، وتوجه إلى مدارسه الحكومية وقفز من أعلى السور ليحصل على سندويش فول تذوقته ذبابة قبله عشرات المرات، وأمضى حصة الرياضة متجولاً في الشوارع المحيطة بالمدرسة. ومن الأهالي من توجه إلى المدرسة ليشكو تأخر الباص الصباحي 10 دقائق كاملة عن موعده، ومنهم من من أبلغ الناظر بتعرض ابنه للسب والضرب على يد المعلم، مؤكداً أن أحداً لا يمد يده على ابنه إلا بإذنه. من 600 إلى 3 ملايين طفل في الشارع! لكن، يظل هناك من مرّت عليه بداية العام الدراسي 2013 – 2014 مرور الكرام، وكأن شيئاً لم يكن. فلا اضطرار إلى الاستيقاظ مبكراً من «أحلاها نومة»، ولا حاجة إلى التوتر لأن الحصة الأولى أوشكت على أن تبدأ، ولا تفكير في حشو سندويش الفسحة أو نوعية نشاط حصة الرياضة، أو التأخير ساعة أو ساعتين عن موعد العودة إلى البيت، لأنه ببساطة شديدة ليس هناك بيت في الأصل. في مثل هذا الوقت من العام، يحين موعد العودة إلى المدارس، ويحين معه موعد جولات الكرّ والفرّ بين باعة الأدوات المدرسية بأسعارهم المتوحشة المتكالبة على جيوب الأهل، وبين ملايين البيوت المصرية حيث يوجد طفل أو اثنان أو ثلاثة من أطفال المدارس. ويحين معها كذلك بدء موسم الطوابير الدراسية، بدءاً بطابور الخبز أمام الفرن، مروراً بطابور السحب أمام البنك، وانتهاء بطابور تسديد المصروفات على باب المدرسة. لكن، في مثل هذا الوقت من العام أيضاً تستمر حياة عدد غير معروف من الأطفال من دون الالتفات إلى التفاصيل الصغيرة الخاصة بالمدرسة والعام الدراسي ومواعيد النزول من البيت والعودة إليه والدروس الخصوصية وحصص النشاطات... وغيرها. فأولئك الأطفال الذين تقدر منظمة «يونيسيف» عددهم بين 600 و800 ألف، وتقفز بهم تقديرات أخرى إلى مليون وأحياناً إلى مليونين وربما إلى ثلاثة ملايين، لا بيت لهم ولا مدرسة. أطفال الشوارع تحوّلوا في مصر طوال ثلاثة عقود من مشهد عجيب في الشارع إلى ظاهرة متنامية ومنها إلى واقع مؤلم ينتشر ويتوغل على مدار الساعة، ثم قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار ثم قنبلة انفجرت بالفعل في كل ركن من أركان القاهرة وعدد من المدن الكبرى، ومنها إلى قوة «ثورية» ضاربة في الأرض يحركها من يملك المحفزات تارة للسيطرة على ميدان هنا، وتارة لضرب شرطة هناك، وثالثة لنشر الفوضى وإشاعة عدم الاستقرار في كل مكان. ضحايا الأنظمة السياسية المتعاقبة بدأت قصة هؤلاء الأطفال في شوارع القاهرة كضحايا للفقر والجهل والحرمان وكثرة الإنجاب، ثم تحولوا مع قدوم الجيلين الثاني والثالث إلى لعب دور الأشرار، يخافهم الجميع، ويستغلهم البعض، وتتجاهلهم الدولة، وعلى رغم ذلك يتحدث عنهم الكل. فالنظام – أي نظام - يعتبرهم شوكة في حلقه، والمعارضة تتخذ منهم وسيلة لمهاجمة الحزب الحاكم طمعاً في السلطة، والمجتمع المدني منه ما يفتئت على مواجعهم ومنه ما يعمل بجد محاولاً تقديم مساعدة هنا أو دعم هناك. أما المواطنون، فمنهم من يتمنى لو أغمض عينه وفتحها ليجدهم وقد تبددوا في الهواء، ومنهم من يدفعهم بعيداً كما يفعل مع الذباب، وقلة تتعاطف معهم فتعطي هذا جنيهاً وتمنّ على هذه بسكاكر أو بقايا سندويش. لكن كرة الثلج تزداد تضخماً ومعها شظايا القنبلة التي انفجرت منذ اندلاع «ثورة يناير». كتيبة أطفال الشوارع، بثقافتها المتفردة وأسلوبها الفريد والسري في البقاء على قيد الحياة وقواعدها المنظمة التي لا يعلمها سوى أعضائها، لم تعد تخشى الظهور العلني في قلب شوارع وسط القاهرة وأرصفة مناطقها الراقية وأمام محالها الفارهة. فلم تعد الشرطة ترهبهم، ولم يعد هناك حاجة إلى أن تلتزم أماكن تجمعها ومراكز التقائها. فالتعامل الأمني معهم من نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك سقط مع انكسار الأمن. والتعامل الرخو معهم من قبل نظام الرئيس المعزول محمد مرسي سقط مع انكسار النظام. وعدم وجود تعامل معهم أصلاً في ظل الرئيس الموقت عدلي منصور يجعل القنبلة التي انفجرت فعلياً معرضة لتوابع انفجارية عدة. يذكر أن وزارة الشؤون الاجتماعية في عهد جماعة «الإخوان المسلمين» كانت قررت في أواخر أيام مرسي اتباع الأسلوب الـ «نازي» مع أطفال الشوارع، وذلك بجمع أطفال شوارع القاهرة وعزلهم في معسكرات بعيدة للقضاء على الظاهرة. أمام مكتبة الأدوات المدرسية الشهيرة في شارع الثورة في مصر الجديدة، تصطف سيارات الأهالي في تظاهرة مدرسية حاشدة لشراء ما غلا ثمنه وقلت قيمته من ألوان فوسفورية ولوحات رسم مستوردة وأقلام سحرية وملفات «ديزني» الأصلية. ويخرج الصغار محملين بالمشتريات ليجدوا مصطفى وسيد اللذين لا يتجاوز عمر أكبرهما عشر سنوات يقومان بدور «السايس» تارة، وحامل الأكياس تارة، وعسكري المرور تارة ثالثة، أملاً ببضعة جنيهات هي حصيلة بدء العام الدراسي 2013 – 2014. تسألهما عن سبب الزحام أمام المكتبة، فيجيب مصطفى: «العيال رايحة المدرسة». فتسأله: «وماذا عن مدرستك؟»، يرتبك ويقول: «كنت في المدرسة زمان. دلوقتي (الآن) أنا راجل كسيب»! أما سيد، فينظر إلى الأطفال ممن هم في مثل سنة، ولكن على طرف النقيض الطبقي والاقتصادي والأسري، ويقول: «كان ممكن أروح المدرسة مثلهم. لكن أنا مش عايز»! قد يكون سيد غير راغب فعلاً في الذهاب إلى المدرسة، لكن آخرين غيره يشتركون معه في شعوره هذا. فالنظام الذي تجاهل سيد ووالده وعلى الأرجح جده، على مدى عقود، لا يريد ذلك. والسياسات المتبعة من ورش عمل في فنادق خمس نجوم ومؤتمرات حاشدة في منتجعات سياحية ولقاءات رفيعة المستوى في قاعات مكيفة لم تحل المشكلة. الائتلاف المصري لحقوق الطفل تقدم بمقترحاته للجنة الـ «عشرة» المكلفة وضع الاقتراحات على تعديلات الدستور الجديد، أملاً بأن ينص على التزام الدولة ومؤسساتها كفالة حقوق الطفل الأساسية، بداية بإقرار تعريف الطفل، ومروراً بضمان حقوقه المدنية والسياسية، وانتهاء بضمان حقوق الأطفال ذوي الحاجات الخاصة، سواء كانت على طريق النبوغ أو التأخر. وإلى أن يُكتَب الدستور، وتُفعَّل مواده، وينشط الرأي العام، وتعاد هيكلة التعامل الحكومي مع أطفال الشوارع، ويُفرَّق بين الصالح والطالح في منظمات المجتمع المدني العاملة في هذا المجال، ويجرى تعداد رسمي للظاهرة من أجل علاجها... يستمر أطفال الشوارع في مصر في استقبال العام الدراسي الجديد خارج أسوار المدرسة على طريقتهم الخاصة.
مشاركة :