تأملات في قصيدة «حيفا تشبكُ شَعرها بيمامةٍ عطشى» للشاعر الفلسطيني نمر سعدي

  • 1/18/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

للمدينة في الشعر العربي الحديث حضور مكثف حددته ظروف موضوعية وذاتية. تقرأ أشعار نزار قباني ومحمود درويش مثلا فتستهويك صورة دمشق الساحرة وبيروت المحاصرة. أما القدس ــ نظرا إلى وضعها الاستثنائي ــ فهي مدينة السماوات، أي موطن الديانات الثلاث وأكثر قصائدها مغناة، أشهرها قصيدتا مظفر النواب وتميم البرغوثي. وللمكان وظيفتان: فيه تتحقق ملامح الذات ــ على حد تعبير أدونيس ــ ومنه تأتي مفاجآت السقوط.. في هذا الإطار تتنزل قصيدة الشاعر الفلسطيني نمر السعدي والتي تحمل هذا العنوان الآسر «حيفا تشبك شعرها بيمامة عطشى». بنية القصيدة تضم هذه القصيدة 19 سطرا موزعة كالتالي: ثمانية أسئلة إنكارية، مختزلة وفق مبدأ الاقتصاد في اللغة في ستة أسئلة صريحة وثمانية أجوبة ضمنية، لتكون العلاقة المنطقية بين المدخل والنهاية علاقة سببية، علاقة السبب بالنتيجة. ولولا الضرورة المنهجية لاعتبرنا الأجوبة بدورها أسئلة إنكارية. الجزء الأول: السؤال على السؤال جواب! تنفتح القصيدة بالسطر التالي : «منذ متى وأنت تصب رغوة بحرها وشذى نداها في دمك...» وتنغلق بالسطر التالي: «منذ متى وأنت تحبها وتصب رغوة جسمها أو نار شهوتها المطيرة في دمك؟» لتختزل القصيدة في هذين السطرين. السؤال الأول إنكاري ويعادل نحويا جملة تقريرية كأن نستبدل صيغة السؤال «منذ متى» بـ «منذ البدء، منذ الأزل» لذلك حذفت نقطة الاستفهام عمدا. أما السؤال الثاني وإن بدا في الشكل حقيقيا فهو في الأصل إنكاري ونقطة الاستفهام في آخر السطر مراوغة للقارئ: سؤالان إنكاريان في سؤال واحد يصب ضمنيا في سؤال حقيقي: «حـتام وأنت تصب رغوة بحرها وشذى نداها في دمك». «حـتام وأنت تحبها وتصب رغوة جسمها أو نار شهوتها المطيرة في دمك». إذا كان ظرف الزمان غير معلوم شكلا في القصيدة وواضحا ضمنيا ــ والشعر مبني على الغموض واللعب بالكلمات ــ فإن ظرف المكان جلي: دم الشاعر وعاء حاضن لفعل «صب» مكرر وفعل «أحب». إن الزمان والمكان توأمان لا ينفصلان.. لذلك تستدعي نظرية المعرفة الحديثة في الفيزياء والفلسفة مفهوم «الزمكان» للدلالة على الترابط المتين بينهما في فهم الظواهر الطبيعية واللغوية. أما فعلا «صب» و«أحب» فمشتقان من الحب والصب أي من جنس واحد في الأصل. فالصب أو الصبابة هي أعلى درجات الحب. ألم يكتب الحصري القيرواني: «يا ليل الصب متى غده». لذلك يمكن أن يقرأ السطر الأول والثاني على النحو التالي: منذ متى وأنت تصب حبها في رغوة بحرها وشذى جسمها ونداها في دمك» الاسئلة الإنكارية، في النص، مختصرة في ستة أسئلة صريحة، مبنية على أفعال دالة على الحركة «تصب، تقتفي، تؤثث، فخخت، تقيس، يشيخ، تلمع، تهذي، تهوي، تحبها، تصب». الجلي أن فعل «تصب» يفتح القصيدة ويغلقها وهو الفعل الوحيد المكرر، يضاف إليه «تحبها». يصب «ليحب» عندئذ تصبح العلاقة المنطقية بين مدخل القصيدة ونهايتها علاقة سببية، علاقة السبب بالنتيجة. يصب الشاعر ثم يصطفى من بحرها رغوته.. زبده، عصارة مده وجزره ليضيفه إلى مضاف ومضاف إليه «شذى نداها» والكل يسكب في دمائه ليضيء لها الليمون ــ على حد تعبير الشاعر الكبير محمود درويش ــ «ملح دمه». لم يكفها ذلك، ها هو الشاعر يقتفي ما يخلف اللبلاب في شرفاتها، في أعاليها، من شهوة عابرة. ونوع اللبلاب هو ذلك الجامع لثلاثة ألوان: الأزرق اللازوردي الطاغي والذي يحيل على زرقة السماء، والأبيض الدال على الزبد والملح والثلج. أما اللون الأصفر، لون الليمون، ليمون يافا، فله وظيفة جمالية ألا وهي الترصيع، وله كذلك فعل السحر، سحر القبة، قبة المسجد الأقصى الصامدة على مر الأزمان والمتعالية على التدنيس، تدنيس البرابرة المستوطنين. الشهوة في تمثلها مرتبطة بالحواس لكنها تظل مجردة ولا مرئية. في القصيدة، يشخصها الشاعر ويرتد بها من منزلة اللامرئي ــ لا إلى المرئي ــ وإنما لمنزلة وسطى يسميها سارج فنتوريني (serges venturini)؛ بالعابرة للمرئي، le trans-visible شهوة كما يقول أدونيس تتقدم لتملأ الفراغ، فراغ ليلها بشفاه ليليت التي استدعت نفسها عندما نصب لها الشاعر كمينا لما فخخ عطر قصيدته بالموج، بزبده. هذه الصورة الطريفة تذكرنا بطريقة صيد فريدة لدى بعض الحيوانات مثل la panthère noire «أنثى الفهد الأسود» التي تختفي وترسل عطرا ــ طعما يستهوي الحيوانات الصغيرة، وعندما تقترب منها تفترسها دون عناء. هناك صورة أخرى في الميثيولوجيا الإغريقية، صورة عرائس البحر اللاتي يفتن البحارة، بأصواتهن الشجية، ليلقين فيما بعد بمن لا يعطل حاسة سمعه إراديا ــ كما فعل ــ ulysse في الهاوية. أي وحدة قياسية في السؤال الرابع تمكن الشاعر من تحديد أبعاد التأمل في رواية حبها الأزلي؟. إن التأمل في أصله ينتمي إلى دفتري الفلسفة والرياضيات وهو التفكير المطول في مسألة ما، كتأملات ديكارت Descartes وباسكال Pascal، لذلك نتساءل: هل الحب حالة وجدانية نعيشها أم نتأمل فيها؟ وهل يجوز الحب والتأمل في آن؟. مفارقة لا يقوى عليها إلا الشاعر، في قصيدة كالتي نحن بصدد تفكيكها وقد لا نقوى عليها! مرة أخرى نرجئ الجواب ونسأل: هل يقوى الدنيوي على السرمدي؟ وحده الشاعر يعرف كيف يستوطن غيهب حبها، وحده المختص دون سواه، وحده الكنعاني المفرد في صيغة الجمع ــ حتى لا يكون حبه لحيفا حصريا ووطنيته ملكية خاصة تقصي من يشاركه الزمان والمكان والتاريخ ــ يدرك ذلك. في الشعر يجوز للمبدع ما لا يجوز لغيره، تفرده في الأسلوب أي في كيفية النسج. في السؤال الخامس يتساءل الشاعر: «كيف يشيخ قلبك في طفولتها؟» كأني به يردد على لسان جميل بثينة «كيف كبرت ولم تكبري»، أو كما قال محمود درويش: «في اليوم أكبر عاما في هوى وطني فعانقوني عناق الريح للنار». في السطر الثاني من النص، عندما يتشظى الماء وهو المرآة، عندها في لحظة الصفاء يلمع ماؤه الكحلي في أنوثتها، والماء في التحليل النفسي له دلالة شبقية تحيل على مفهوم الشهوة العجلى. هناك ترابط محكم النسج بين الكلمة والأخرى، بين السطر والسطر، وبين المدخل ونهاية القصيدة. في السؤالين السادس والسابع يصل الشاعر في حالته الشعرية إلى حد التخمر والهذيان بالموسيقى، في فضاء محدد هو الجسد ثم يهوي في الصدى كالأقحوانة: ما القاسم المشترك بين المشبه والمشبه به غير أنهما يزهران ثم يذبلان عندما يشح الماء وتشتد الحرارة. * شاعر وناقد تونسي النص حيفا تشبك شعرها بيمامة عطشى منذ متى وأنت تصب رغوة بحرها وشذى نداها في دمائك تقتفي ما يترك اللبلاب في شرفاتها من شهوة عجلى تؤثث ليلها بشفاه ليليت التي لم تأت إلا عندما فخخت عطر قصيدة بالموج؟ منذ متى وأنت تقيس أبعاد التأمل في رواية حبها الأزلي؟ كيف يشيخ قلبك في طفولتها وتلمع في أنوثتها شظايا مائك الكحلي؟ لوز البحر مرمي على يدها ودمع طيورها البيضاء يلمع في خطاك فهل ترى تهذي بموسيقاك في جسد وهل كالأقحوانة في الصدى تهوي؟ ترى حيفا من الأصداف تخرج مثل أفروديت تشعل ماء بسمتها وتسند قلبها المثقوب بالنعناع والدامي على نجم من الصوان تشبك شعرها بيمامة عطشى وتنتظر البرابرة المسائيين... منذ متى وأنت تحبها وتصب رغوة جسمها أو نار شهوتها المطيرة في دمك؟

مشاركة :