يُعد الانضباط وفرض القوانين من أهم أهداف إنشاء أسرة قوية صالحة ومتماسكة، يفهم أفرادها ما لهم وما عليهم في "جو" يسوده الاحترام والمحبة، إلاّ أنه قد تزود وتيرة الانضباط عن الحد المطلوب لينقلب المنزل إلى "ثكنة عسكرية"، لا يقبل فيها الأب أي نقاش أو مجادلة، متوقعاً التنفيذ ب"سم" أو "أبشر". الجميع يخاف الضابط الأول سواء كان الأب أو الأم ليحولوا أطفالهم إلى جنود صغار لن يستطيعوا التخرج من هذه المدرسة الأبدية بحكم ارتباطهم الأسري، ومن يعترض يصبح "عاقاً"، يفقد العلاقة الإنسانية والمحبة، لينقلب المنزل إلى مكان يملؤه الخوف من العواقب والهروب من المواجهة. ويستند بعض الآباء على ما عاشوه في الماضي بقولهم: "ما ضرنا"، "طلعونا رجال"، والتي اقترنت بسلب الحرية الفردية سواء كانت بسيطة أو مصيرية كدراسة أو زواج أو حياة طبيعية، متناسين أن لكل زمن أسلوباً وتعاملاً يختلف عن سابقه. وتلعب التنشئة والخبرات ونوع التربية في تكوين "الشخصيات السلطوية"، ليبقى المطلوب من الوالدين تربية أبنائهما بمعاير معينة (لا إفراط ولا تفريط)، والابتعاد عن المبالغة؛ لأنها لو زادت عن حدها ستنقلب إلى مشاكل نفسية يصعب علاجها. هدى السيلان: لا نبالغ في تربية التسلط خوفاً من توارث العُقد النفسية وانكسار الذات نظام عسكري وقالت "أميمة عبدالرحمن" -طالبة جامعية-: والدي يتميز بنظامه العسكري الذي اعتدنا عليه منذ الصغر، فالأكل والخروج من المنزل والنوم بوقت معين من غير تأخير، وإلاّ ترتب عليه عقوبة تمتد لأسبوعين، ولا ننسى الملابس حيث يشملنا فتيات وأولاد، مبينةً أن الغريب أنه ومن غير شعور يستخدم ألفاظاً عسكرية فبدلاً من أن يصرخ: "أعقل" يقول: "انضبط"، وإذا أراد الخروج معهم قال: "استعدوا". وأوضحت "هيام المقبل" -طالبة ثانوي- أنه دائماً ما تكون الأم التي تمتهن التدريس ذات نظام عسكري، فتفرض الكثير من القوانين لا مبرر لها، مضيفةً أن والدتها "لخبطت" بين عالم التدريس ومنزلها، فالجوالات غير متواجدة، ولا نأخذها إلاّ وقت الإجازات الأسبوعية، على أن يكون تسليمها الساعة التاسعة مساءً، لافتةً إلى أنه في الصباح الباكر نخرج والناس لازالت تصلي الفجرّ، حيث تنقلنا إلى المدارس بنفسها، ثم تذهب بعد ذلك إلى مدرستها. بدون كلام وأكد "عبدالله السعوي" -طالب ثانوي علمي- على أن والده وصل إلى مرحلة الانضباط حتى في الأكل، فحين يسمع صوت الملعقة والشوكة و"طقطقتهما" بالصحن فاعلم أنك محروم طوال اليوم من الأكل!، ولو ساعده أحد إخوته وهرّب الطعام له فسيقضي يومين وهو جائع، مضيفاً أنه حاول كثيراً إخباره بأنه لابد من وجود إزعاج وقت الأكل، لكنه يرفض تماماً مناقشة الأكل، إذ لابد أن يعم الصمت أرجاء الصالة حتى تنتهي الوجبة. وانتقدت "أم دانة" -موظفة حكومية- طرق التربية القديمة، مضيفةً: "والدتي أطال الله بعمرها من الجيل القديم الذي تربى في بيت تعليمي، فوالدها -رحمه الله- كان مدير مدرسة، وكان حازماً بشهادة الكثيرين ممن حوله، تطبعت أمي بطباعه، وفعلاً مارستها علينا كأطفالها، مع أن الزمن تغير والتربية القاسية لا تخلف إلاّ الشخصيات المهزوزة"، مبينةً أن من بين الأشياء التي كانت تفعلها والدتي الجولات التفتيشية التفقدية داخل المنزل، والتي لابد أن تكون مفاجئة من غير سابق إنذار. تنفيذ أوامر وقالت "أم طلال" -ربة منزل وأم لأربعة أطفال-: كنا أربع فتيات، ووالدي لم يكن معترضاً لكنه كان يتمنى طفلاً ذكراً، بعد اختي الرابعة أنجبت أمي أخي، والذي كان يوم ميلاده فرحة لهما ومأتماً لنا، دللوه كثيراً، ولم يرفض له طلب، مضيفةً أنه ستعاقب تلك التي ترفض له طلبه إمّا بالضرب أو الحرمان، مبينةً أن والدتها طلبت منهن الاستلقاء أرضاً حتى يعمل على دهسهن بدراجته الهوائية، حتى يستمتع بالمطبات الصناعية!، مشيرةً إلى أنه كبر أخوها وكبر تسلطه وتزمته، مؤكدةً على أن نتاج تربية والديها أثر عليهن، فصوته يعلو على الجميع، وأوامره لابد أن تنفذ وإلاّ قلب المكان بالصراخ، وقد يصل الأمر إلى مد اليد. وأوضحت "هيام المطوع" -طالبة جامعية- أن والدتها لها أسلوب خاص تشتهر به، فهي تتبع الأسلوب العسكري التحقيقي، فتفاجئك بأن تخبرها عما يحدث من غير شعور، فمثلاً تخبرك أن المعلمة اتصلت بها اليوم لتُبادر بالبكاء بأنها لم تفعل شيئاً، وأن زميلتها هي التي ضحكت، فلا هي فعلاً اتصلت المعلمة، وهي أخبرتها بمشكلة حدثت لها، مضيفةً أن "تكتيكها" افتراض مشكلة فإن أصابت اكتشفت شيئاً جديداً، وإن لم تصب فلا ضرر، مبينةً أن ذلك الأسلوب تتبعه مع والدي، الذي يقول كل شيء لها قبل أن تسأله خوفاً من غضبها. تنظيف مُمل وتأسفت "سماهر الخالدي" -طالبة جامعية- على أن والدها خلق من إخوتها "جواسيساً"، خاصةً الصغار منهم ليكونوا على علم بأدق التفاصيل والتدخل في كل شيء، مضيفةً أنها لا تمانع، لكن دون أن يكون بشكل أكثر من اللازم، سواء في وقت النوم أو الاستيقاظ، مبينةً أن الأكل تحت سلطتهما يضطرهم إلى الانفجار، ذاكرةً أن لكل عمر تربيتة، فهي لم تعد الطفلة التي تحتاج الإشراف والتدخل في أتفه الأمور. وأشارت "هدى اللحيدان" -موظفة قطاع خاص- إلى أنها لا تنكر فضل زوجها عليها وحنيته على أطفاله، لكن نظامه العسكري يكرهها فيه أحياناً كثيرة، مضيفةً: "على سبيل المثال ملابسه لابد من طريقة خاصة من كويها، وإن وجد فيها كسرة أرجعها مرةً أخرى"، مبينةً أن الأمر لا يقتصر على ملابسه فقط، بل تعدى إلى ملابس أطفاله، لافتةً إلى أن السلبية الأكثر مرارة هي قلة صبره ونفسيته المتقلبة وتلبية طلباته بالحرف الواحد، وكذلك عدم تكرار الموضوع وإلاّ فالعقاب وخيم!. ووصفت "أسيل عبدالله" -طالبة جامعية- طريقة أمها بالعسكرية في تنظيف المنزل، مضيفةً أنه في أيام الإجازات تتفنن والدتها بالتعذيب التنظيفي، حيث تصحو قبيل الفجر لتستعد للصلاة، ومن بعدها تبدأ رحلة التنظيف إلى أن نصل إلى "ترويبة" "السراميك"، والتي تجبرهم بتنظيفها بفرشاة الأسنان، ذاكرةً أنها تطلب في تنظيف النوافذ من إحضار منشفة رطبة وإدخالها بالفتحات الصغيرة لإزالة الغبار، مشيرةً إلى أنه في نهاية اليوم تقيّم والدتها أعمالهم، ولو وجدت "ذرة" غبار فاعلم أنك ستحرم من جوالك وحاسبك، بل وحتى التلفاز لمدة أسبوع حتى يوم الإجازة القادم!. التمر أهم وتذكرت "أم ابراهيم" أيام طفولتها في منزل جدّها قائلةً: كانت أياماً جميلة، بالرغم من حزم جدي، والسبب يعود لامتهانه سلك التعليم وانتهائه بكونه مديراً، كنا نجتمع كأسرة كبيرة في منزله فنجلس إلى وقت الفجر نتسامر وقبيل الأذان بدقائق نقفل كل شيء، لأنه سينهض من نومه ويذهب إلى الصلاة، وكأنه كان تمويهاً منّا أننا لم نسهر، مضيفةً: "لم أكن أعرف أنه يعلم بأمرنا، وحينما كبرت فهمت سبب إقفاله (طبلون الكهرب) الساعة السابعة صباحاً ونحن في عز الصيف، لينكد علينا نومنا ويجبرنا على النهوض باكراً، ولا يعيد الكهرباء إلاّ الساعة الثامنة مساءً، وكأنه يخبرنا أنه حان وقت النوم". وأشارت "أماني القحطاني" -موظفة حكومية- إلى أنها لا تُنكر أنه يوجد صفات كثيره جميلة في والدها، لكن هناك أوقاتاً يخرج بوجه آخر تسلطي، خاصةً في وقت الإجازات، مضيفةً أنه في فصل الصيف لا يجعلهم يجلسون أو يلعبون بحكم أنه لا يفيد بشيء، فكان يملأ فناء منزلنا بالتمر السكري، ويجعل كل واحدة منا تنظفه ب"فوطة" مبللة حبة حبة، الأمر الذي لم يجعلهم يستفيدون من الإجازة إطلاقاً. نسخة مصغرة وقال "أبو بدر" -موظف حكومي-: تربيتنا منذ الولادة على فرض الطاعة تجاه من هم أكبر عمراً، فأنت تطيع إخوتك، وأنت وإخوتك تطيعون والديك وهكذا، وحينما تخرج من المنزل إلى المدرسة إن كنت طفلاً فطاعة المعلمين واجبة، وطاعة مديرك إذا كنت رجلاً أكثر وجوباً، مضيفاً أنه ذا كانت الأغلبية تضغط على نفسها بالطاعة منذ نعومة أظفارها، فمن الطبيعي أن تنفجر يوماً ما إذا احتللت منصباً يفرض الأمر، فيكون الكيل بمكيالين لمن هم أضعف منك. وأوضحت "أم صالح" -ربة منزل وأم لثلاثة أطفال- أنه كان والدها -رحمه الله- متسلطاً بكل شيء، لدرجة الضغط على الجميع، لكنه كان يُحمل أخيها ضعف ما يتحمله طفل في عمره، بأنه هو المسؤول الأول والأخير عن الأسرة، مضيفةً أن الأمر ليس سهلاً فصنع رجل منه على حد قول والدها قد يجعله نسخة مصغرة من تقلباته المزاجية وعناده غير المبرر، مبينةً أنه كان ينتهج طريقة ابيه، ويفجر كبته عليهم حينما ينفجر، مشيرةً إلى أنها لا تلومه، فقد كان في يوم من الأيام لا يلعب كبقية الأطفال، أو حتى يفكر مثلهم؛ لأنه مشغول بما يحتاجه المنزل وما نحتاجه نحن، والأهم من ذلك ما يحتاجه والدها. تنشئة وخبرات وتحدثت "هدى السيلان" -أخصائية نفسية- قائلةً: في علم النفس نسمي هذه الشخصية بالمضطربة التسلطية، سواء ذكراً أم أنثى، قد تكون نتيجة ضغوط اجتماعية أو حدث عارض بالطفولة من تربية قاسية وإهمال أو نبذ، ومن جهة أخرى قد يكون فيها حماية مبالغ فيها أو دلال زائد، فتتعود أن تأخذ كل شيء وتتسلط على الجميع، فهو تعود على إصدار الأوامر والطلب وعدم الخذلان، مضيفةً أنه تجد هذا النوع من التسلطية يستفحل في وقت المراهقة، فلا تجد رادعاً لها، ثم يتطور به الأمر عند الزواج، فإذا كانت هي السلطوية فلا يستطيع الزوج التحكم بها لتقوى شخصيتها فوق شخصيته أو العكس، حينما يكون هو متسلط على منزله وزوجته فيخلق منزلاً مليئاً بالمشاكل، مبينةً أن سبب التنشئة أو الخبرات والتربية من أهم مسببات هذا النوع من الصفات لدى شخصية الفرد، ذاكرةً أن المطلوب من الإنسان تربية أطفاله بمعايير معينة (لا إفراط ولا تفريط)، مشيرةً إلى أنه يُطلب الحزم من الوالدين لأطفالهما في مراحل معينة إلاّ أننا لا نرجو المبالغة؛ لأنها لو زادت عن حدها ستنقلب إلى مشكلة نفسية. تأثير الانفلات وشدّدت "هدى السيلان" على أهمية اقتناع الوالدين بتغيير الزمان من ناحية التربية ومعطياتها، وأنها مختلفة عن السابق، فتغيير اتجاهاتك وفكرك من شأنه التأثير على من حولك فما بالك بأطفالك، مضيفةً أن العيش في البيئات المغلقة والبسيطة سابقاً والتي كانت التواصل البشري جداً عالياً قد اختلف تماماً اليوم، مبينةً أنه لابد أن يفهم السلطوي أو من لديه نزعه سلطوية أن ما يصل لأطفاله ليس صورة من الحُب والاهتمام إذا كان الغرض من سلطويته أن يضمن مستقبلهم، فرسالة الحب هذه لا تصل إلى الأطفال بحكم تأثير التغيرات الاجتماعية والبيئية التي كانت مقبولة في زمن ما، لافتةً أن هذا الموضوع هذا حساس جداً، بحكم أن السلطوية قد تغيرت في زمننا هذا، فالسائد الأكثر شيوعاً هو المرونة والدلال الزائد والاعتماد على الخدم، مؤكدةً على أن الانفلات في التربية وإهمالها قد ينتج شخصية سلطوية وسواسية. الجوهرة وأخواتها..! "الجوهرة" فتاة ثلاثينية عزباء، تعيش في منزل والدها ووالدتها كأي فتاة لم تتوفق بالزوج الصالح، قسوة الأب غير المبررة سبّبت لها ولأخواتها وإخوانها أزمة غير منتهية، فحرمانهم من الخروج والدخول إلاّ بإذن، وأوقات النوم والأكل التي تكون بالثانية إن تأخرت حل الوباء على الجميع، إذ لم يكن للعمر قيمة لدى الأب، فمهما كبروا مازالوا أطفالاً في نظره، ويتوجب عليهم الطاعة العمياء لأوامره. تزوج إخوة "الجوهرة" ليكون لهم متنفس وحرية الخروج من المنزل، الأمر الذي خلق بصيص أمل لديها وأخواتها، حلمهن إكمال الدراسة انتهى، والوظيفة لن تأتي إلاّ بشهادة، ولو بحثن عن غيرها فسيكون الضرب والحرمان جزاءهن، حيث اقتناع الأب بفرض الطاعة العمياء دمر مستقبلهن، فما كان إلاّ الانشغال بأعمال المنزل التي لا طائل لها حل ذكي من وجهة نظره، ليخترع الجدول اليومي من "غسيل" و"كوي" وتنظيف لا يجدن بعدها وقتاً كافياً للراحة، ولا حتى الاستمتاع في سبيل تهيئتهن لأن يكن زوجات صالحات في المستقبل، وعلى الرغم من ذلك كله لم يوافق على أي شخص تقدم لطلبهن، بحكم أيضاً اشتراطاته وتدخله في زوج المستقبل!. هشتقة إلى الأب مع التحية * لا ينال الثناء من والديه أو معلميه أو حتى في مجال عمله إلاّ "المطيعون"، خصوصاً من يعيش تحت أمر شخص ذي طباع عسكرية صارمة، لكننا هنا نخبرك أن الأوامر التي تتوجب طاعة عمياء بحسب رأيك وقناعتك أو كقول الجميع "ما ضرنا" قد يمحو فردية من هم أضعف منك وتدمر ذاته وتجعله انهزامياً. * لا تكن عزيزي الأب أول من يمحو شخصية طفلك لأنك تريده أن يكون مطيعاً، ويكون مبدؤها مفروضاً عليه، فغالباً ما تخلف الطاقة العمياء شخصاً "أحمق" أو "ثورياً"، فلك أن تختار ما سيكون عليه طفلك. * الطفل الموهوب والمبدع يكون نتاج بيئة متفهمة لاحتياجات الفرد الفطرية، ومن الاستحالة أن تجبر طفلك بأنظمة عسكرية متشددة، وتلقنه أوامرك الصارمة ثم تنتظر منه شيئا مختلفا عن البقية، أطفالك نسخة منك فاجعلها أفضل نسخة. * إن من أعظم الإنجازات البشرية كانت تمرداً على الأنظمة التقليدية، فلو اقتنع الناس باستحالة الطيران لما أخترعت الطائرات، فكر كثيراً بهذه المقولة.
مشاركة :