مواجهة أي تطرف يمس الأرواح والممتلكات تحتاج لنوعين من الاستراتيجيات: الأولى تتعلق بالمواجهة الأمنية المباشرة، وتشديد الحصار على التمويل، ومراقبة المشتبه فيهم، والحد من وقوع جرائمهم. وقد نجحت السعودية في هذه الاستراتيجية بشكل بارز. لكن هذا النوع من المواجهة لا يمكنه أن يستمر بشكل فعال دون استراتيجية مساندة، يمكن تسميتها بالمواجهة الناعمة؛ وذلك لتجفيف منابع ظهور متطرفين جدد، وكذلك محاولة إعادة من سلك طريق التطرف لجادة الصواب. ولأقرِّب الصورة على القارئ، ففي المجال الطبي نحن نعمل على مستويين في التعامل مع الأمراض: المستوى الأول يهتم بالجانب العلاجي، وذلك بعد وقوع المرض، وهذا يشبه الاستراتيجية الأمنية التي تتعامل مع أفراد متطرفين يخططون لجرائم على أرض الواقع. وفي المقابل هناك المستوى الوقائي في المجال الطبي، الذي نسعى فيه إلى إبعاد الفرد عن دائرة المرض ودخوله فيه، والتعامل مع عوامل الخطورة التي قد تؤدي بالفرد إلى المرض، عن طريق التوعية وتعزيز الصحة، ومن خلال حملات إعلامية متكاملة. وهذا ما يمكن تشبيهه بالاستراتيجية الناعمة التي تعمل على الحد من دخول الفرد لبؤرة الخطر. وهنا نتحدث عن استراتيجية تسعى للحد من دخول فئات أخرى لدائرة التطرف، وكذلك العمل على تغيير الفكر والتوجُّه والسلوك لدى المنتمين لتلك الفئة أو المتعاطفين معها، من خلال حملات إعلامية مقننة ومبتكرة، ترتكز على الأسس العلمية في تغيير المفاهيم والتوجهات. وفي اعتقادي، إن الجهات الأمنية ما زالت مقصرة إلى حد ما في هذا الجانب، وما زالت تعتمد في الجانب الإعلامي الوقائي على أطر تقليدية غير مبتكرة، لا تتجاوز مقابلات وبرامج تلفزيونية وأخبار صحفية أو محاضرات دينية. زبدة الحديث: إن على القطاعات الأمنية أن تتبنى حملات إعلامية توعوية باستخدام الأطر والنظريات العلمية في تعديل التوجهات والمعارف والممارسات. وهنا نتحدث عن أطر تبحث بعمق في توجهات الفئة المستهدفة وخصائصها، واحتياجاتها الفكرية والعقدية، وكيفية فهمها وإدراكها لمعطيات التطرف، والأطراف المؤثرة فيها سلباً أو إيجاباً، ثم تصميم الرسائل وفق تلك الخصائص، ونشرها بأسلوب شيق ومبتكر، يصل لتلك الفئات بطرق مقننة ومبتكرة. وعلى سبيل المثال، هناك شريحة ليست بالقليلة من المنتمين للفكر المتطرف هم من فئة الشباب، وشريحة من هذه الفئة قد لا يجدي معها لغة التهديد والعقاب، أو البرامج التلفزيونية المباشرة والأخبار الصحفية، بل قد ترى في ذلك وقوداً لها لمزيد من المواجهة. لكن يمكن، باستخدام القوة الناعمة، أن ننجح في تغير قناعاتهم بأسلوب ينطوي على الخلخلة الفكرية لمعتقداتهم المتطرفة، وتبيان الهدي النبوي الصحيح بطريقة تتوافق مع فهم دقيق لخصائصهم المعرفية والفكرية، وبأسلوب معاصر، وبأدوات إعلامية تصل إليهم. وحديثي هنا لا يعني الإقلال من شأن أهمية العقاب والمحاسبة؛ فإن الله - عز وجل - ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، إلا أن الأمر يحتاج لاهتمام بكلتا الاستراتيجيتين، والتكامل بينهما وفقاً للفئات المستهدفة. ولعل من أهم أطر التخطيط للحملات الإعلامية التي ثبت نجاحها في العديد من الدول الغربية في تعديل السلوك والممارسات الاجتماعية والصحية إطار التسويق الاجتماعي، الذي يهدف إلى تعزيز أو تحسين أو تعديل الممارسات والسلوكيات وفق منهجية علمية، تستند إلى فهم الفئة المستهدفة، واستخدام أسس التسويق التجاري للتسويق للمفاهيم والفكر والقيم. وفي اعتقادي، إن هذا الإطار يمكن أن يحقق الكثير من النجاحات لو استُخدم من قِبل وزارة الداخلية في التخطيط لحملاتها الإعلامية لمواجهة التطرف.
مشاركة :