(هِبَة البلوي)؛ امرأة سعودية نحسبها – والله حسيبها – وطنية حد الثمالة، تسنمت قبل فترة من الزمن مهمة رئاسة فرع بلدية (الشرفية) بمحافظة جدة. وقبيل عدة أيام، قامت هذه المرأة العظيمة بجولة تفقدية ميدانية، وذلك أثناء موجة الأمطار الغزيرة التي هطلت على محافظة جدة، وكانت من الممكن أن تحدث بعض الأضرار في الأرواح والممتلكات، لكن الله سلم، فله الحمد والشكر أولا وآخرا. غادرت هذه المرأة مكتبها الفاخر، رغم أنها تعلم علم اليقين أنها في أواخر أيام حملها، وتتوقع أن تباغتها فجأة آلام المخاض في أي لحظة شأنها شأن أي امرأة. وهذا ما حدث فعلا في أثناء جولتها، وقيل في نهايتها، بعد أن شعرت بالتعب والألم، وتوجهت مباشرة إلى أحد المستشفيات لتضع مولودها هناك. إلى هنا والأمر طبيعي في عمومه، وأهم ما فيه، وينبغي التوقف عنه هو أن الحادثة تنم عن معدن هذه المرأة الأصيل، وإحساسها بالمسؤولية، وشعورها العالِ برسالتها تجاه مقتضيات منصبها، وحرصها على سلامة أرواح مواطني بلدها ومقيميه، وممتلكاتهم، والأهم من هذا روح الإيثار لديها، وكمية النبل الذي تحمله بين حناياها. كان بإمكانها أن تؤثر الراحة والسلامة، وتأخذ إجازة من العمل؛ بحكم ظروف حملها، أو على الأقل تبقى في مكتبها، دون أن تكلف نفسها عناء الخروج، ومشقة التفقد والتجوال في أجواء متعبة كتلك. ولكنها النفوس الكبيرة التي وصفها الشاعر العربي القديم المتنبي بقوله/ إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام ووصفها الفرزدق بقوله/ أولئك أبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا ياجرير المجامع ولعل الفرزدق لا يمانع أن نوسع دلالة مفردة (أبائي) في بيته أعلاه، ونجعلها تتضمن (أخواتي / أمهاتي)! ولكن – وقاتل الله لكن هذه – كان تعاطي بعض أفراد مجتمعنا – ولا نقول الكل- ، في وسائل التواصل الاجتماعي مع هذه الحادثة، تعاطيا مؤلما؛ لم يحترم خصوصية هذه الإنسانة، ولم يُجِلَّ صنيعها بما يليق به من الإشادة والتقدير، وغلبت روح التهكم والسخرية والضحك والاستخفاف عليها وتجاهها، وكأنها أتت عملا مشينا، وقد نسي أولئك أو تناسوا أن لحظات المخاض أمر طبيعي، وحدث يستحق الاحتفاء به، لأن فيه احتفاء بالحياة نفسها، ولم يخجل القرآن الكريم من التطرق له تفصيلا عند إشارته لقصة ولادة عيسى عليه السلام من أمه الصديقة السيدة مريم العذراء عليها السلام، قال تعالى: (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25). سورة مريم. ولو كانت (هِبَةُ) هذه من بلد أوروبي أو أمريكي أو شرقي لقال كثير من المتهكمين عليها؛ كم هي مثالية هذه المرأة! انظروا إلى الأمانة والإخلاص، ونسيان الذات، وتغليب المصلحة العامة على الشخصية. الخ تلك الديباجة. ولكن ولأنها (سعودية) من بني جلدتنا، فجلدها للأسف هو واقع الأمر، ولسان الحال. فأحدهم يكتب (يا حظها! راح يعطوها إجازة أمومة)، وثانٍ يقول (مكلفه نفسها فوق طاقتها، لو زوجها قال قومي طبخي العشا عندي ضيوف بتقول تعبانة جيب عشا ضيوفك من بر)، وثالث يضيف (…… فما بالكم بوحدة في شهرها الاخير تسكع بين الرجال في الشوارع، وبطنها أمامها يجي متر بحجة العمل، رحم الله أمهاتنا كانن يضعن من الثياب الفضفاضة حتى لاحد يرأ حملهن)! ولماذا هذا؟ سؤال بسيط في مبناه، عميق في معناه. ويحتمل إجابات عدة لعل من بينها؛ عقدة (الخواجة) التي لم نتخلص منها منذ عقود من السنوات. ولعل من بينها أيضا تلك الحقيقة المؤلمة: (زامر الحي لا يطرب)! ولكن أقرب الإجابات في نظري تكمن في كونها إمرأة سعودية، ناضلت وكافحت، وأمنت بنفسها، وانتزعت حقها في أن تخدم وطنها ومجتمعها، متجاوزة كل العقبات، متحدية جُلَّ العقبات. أتمنى تكريم هذه المرأة تكريما وطنيا على أعلى المستويات، كأن تمنح وساما وطنيا رفيعا، أو يسمى شارع رئيس باسمها، وغير ذلك من صنوف التكريم اللائق بها، والمحفز لكافة نسائنا لعطاءات متجاوزة لوطن عظيم، ومجتمع يستحق الأفضل دوما. وفي هذا السياق أشيد بموقف أمين محافظة جدة المهندس صالح التركي الذي أشاد بموقف (هبة البلوي)، وبارك لها إنجابها مولودها، وأكد أنها مصدر فخر له وللجميع. كما أني أشيد وأثني على تغريدات كثيرة رائعة بحقها صدرت من مواطنين ومواطنات لديهم الوعي والفكر والوطنية التي نرتجي. أخيرا وليس آخرا بمثل (هِبَة) نفخر ونفاخر ، وما (هِبَةٌ) هذه إلا هِبَةُ جليلة من المنعم عزَّ وجلَّ للوطن. حفظها الله ونفع بها، وبكل من هن على شاكلتها من نسائنا المعطاءات.
مشاركة :