الذكاء: ممتع بقدر ما هو إشكالي»، تحت هذا العنوان، تبدأُ مديرة الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي ببارس، والمتخصصة في علم النفس العصبي، (سيلفي شوكرون) كتابها «هل يمكننا قياس الذكاء؟»، الصادرة ترجمتهُ للعربية عن «مشروع كلمة للترجمة»، معرفةً الذكاء بأنهُ «القدرة على اكتساب المعارف واستعمالها والربط فيما بينها في وظائف تتطلب حل المشكلات أو التكيف مع ظروف جديدة»، وهي تؤكد في ذات الوقت، بأن «أغلب الباحثين يجمعون على أننا ما زلنا نجهل المقصود بهذا المصطلح». كلنا سمع ويسمع عن الـ(IQ) أو اختبارات (قياس الذكاء)، والتي ترتب عليها الكثير من المسائل، منها انتشار الكثير من أشكال الاختبارات الشعبية التي تدعي قياس الذكاء على شبكة الإنترنت، إلى جانب اتخاذ الدول المتقدمة هذا الاختبار، منذُ ظهوره في القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، كوسيلة لمعرفة مستوى الطلاب والموظفين المتقدمين لوظيفة ما، بل وحتى الاجتهاد في تطبيقه على العلماء والمبدعين الأموات، الذين غادروا هذه الحياة قبل شيوع هذا الاختبار. بيد أن الباحثة، تتساءل: هل يمكنُ قياس الذكاء حقاً؟ «وهل يتمتع هذا القياس بالمصداقية في غياب المؤثرات الخارجية والبيئية والاجتماعية؟ وهل بوسعنا تطبيق اختباراته على كل الناس؟» وغيرها من الأسئلة التي تثيرُ العديد من الأسئلة النقدية.الهوس بالقياس تشير (شوكرون)، إلى أن لدى الإنسان هوسًا بالقياس إذ هناك «مقاربتان متكاملتان قد وجهتا بلورة اختبارات تهدف إلى قياس الذكاء: فمن جهة، الرغبة في وضع معايير تمكن من فهم آلية عمل العقل، ومن جهة أخرى، الولع بالقياس»، حيثُ بات لدى الإنسان رغبة في قياس كل شيء، «كقياس عدد السعرات الحرارية المستهلكة يومياً، أو قياس المسافة المقطوعة يومياً، أو قياس النبض، أو قياس عدد ساعات النوم، أو قياس حالتنا النفسية ومدى حزننا أو سعادتنا»، وتقوم العديد من الوسائل التكنولوجية الحديثة، بتدعيم هذا الشغف، فالهواتف الذكية «تساعدنا على القيام بهذه القياسات وتخزينها بسهولة وبكلفة زهيدة»، لكن الباحثة تؤكد أنهُ «لا أحد يعرف ما فائدة هذه القياسات، لكن –على ما يبدو- أصبح القيام بها وتسجيلها لجميع الأغراض أكثر من أي وقت مضى». وبالرغم من إقرار الباحثة بأن هناك غايات نبيلة من وراء هذا الكم من القياسات، إلا أنها قد تؤدي «إلى أشكال من التمييز عندما تكون مرتبطة فيما بينها». فقد أسفرت في السابق (فراسة الدماغ) إلى «الكثير من الانتهاكات الخطيرة ذات الطابع العنصري أو الديني أو الاجتماعي..»، وهي قد تؤدي في عصرنا هذا «إلى المقارنة، وإطلاق الأحكام المسبقة وصولاً إلى التمييز».ما الذكاء؟ تلفتُ الباحثة إلى أن الذكاء أعطي «تعريفات مختلفة للغاية على مر العصور، ولكنها كانت متأثرة، بشكل كبير، بالسياق التاريخي والاجتماعي الذي اقترحت فيه، وكذلك بنظريات علم النفس المعتمدة لتعريفه»، لهذا تتساءل: أترى هل هناك ذكاء أحادي أم ذكاءات متعددة؟ وهل هو ملكة أم مجموعة من القدرات؟ وهل هو فطري أم مكتسب؟ وكل تلك الاسئلة التي دارت حولها النقاشات العلمية، وتجاذبتها الأطراف، مؤكدةً أن كل هذه النقاشات ما كانت ستكون مهمة «لو أن قياس الذكاء لم يكن يهدف منذُ البدء إلى تصنيف الأفراد تبعاً لمقدراتهم العقلة والفكرية». وأمام فشل تعريف الذكاء على نحو دقيق، كما تقول الباحثة، «حاول علماء النفس توصيفه بشكل معياري ومقارن استناداً إلى نجاح الأفراد أو فشلهم في مهام تستخدم فيها القدرات المعرفية»، وقد أفضى هذا التركيز «إلى عدم الاكتراث بدراسات كثيرة متصلة بالطبيعة العامة للذكاء الإنساني، وبالعمليات الفكرية المشتركة بين البشر بغض النظر عن خصائصه المميزة (الإدراكية والحركية والثقافية)»، وتضيف الباحثة «على النقيض من ذلك فقد سعت هذه الدراسات (المهملة للدراسات المتصلة بالطبيعة العامة للذكاء) إلى تحديد ما يميز الأفراد من الناحية الفكرية، وذلك بالتركيز على الجوانب المقارنة والتقييمية». لهذا تبين الباحثة أن «نسب قدرات فكرية لفرد ما ونعته بـ (الذكاء)، أو بكونه (أقل ذكاء أو أكثر) من شخص آخر لهو أمر ذو عواقب وخيمة»، إذ أن «نتائج إطلاق أحكام كهذه ذات أهمية جوهرية، نظراً إلى أننا نعزو إلى (فرد ذكي) نجاحاً أكبر في الميدان الدراسي والمهني أو الاجتماعي». على الرغم من أن «الدراسات التي تسعى لوضع الأسس البيولوجية للكفاءة الفكرية لا تقدم لنا الكثير من المعلومات المفيدة» للحكم في هذه المسألة بشكلٍ قاطع، فـ«من المستحيل اليوم الربط بدقة بين المؤشرات البنيوية للدماغ والفكاءة الفكرية»، كما تؤكد الباحثة.عوامل الكفاءة الفكرية في دراسة الذكاء، لابد من الانتباه للعديد من العوامل، سواء البيولوجية أو الثقافية المرتبطة بالبيئة، ففي الولايات المتحدة، التي يمتازُ شعبها بكونه خليطاً من مختلف الأعراق، تم تطبيق طرايقة لقياس ذكاء المجموعات العرقية، وتبين، كما تشير الباحثة إلى «أن بعض المجموعات حصلت على نسبة ذكاء متوسطة أو أدنى بكثير من بعض المجموعات الأخرى»، وبعد التمحيص في هذه الفوارق اتضح «أن وضع أفراد المجموعات الضعيفة في أوساط ثقافية أكثر ملاءمة، سواء من الناحية التربوية أو من ناحية مستوى المعيشة، أدى إلى ارتفاع نسبة ذكائهم عدة درجات؛ فالاختلافات التي لوحظت تعود إذاً إلى نمط عيش تلك المجموعات لا إلى قدراتها الفطرية»، وهذا ما أكدتهُ العديد من الدراسات اللاحقة. لهذا فقياسُ الكفاءة الفكرية، أو الذكاء، خاضعٌ لقياس عاملين، الأول إمكانية توريث الذكاء، والثاني «تأثير المحيط الذي يترعرع فيه الأشخاص»، لهذا تشدد (شوكرون) على أنهُ «لا يمكننا، على نحو عقلاني، اختبار الجوانب الوراثية لنسبة الذكاء إذا لم نكن متأكدين من أننا عزلنا الآثار البيئية عن الآثار الوراثية... وهو أمر يكاد أن يكون مستحيل التحقق بالنظر إلى الأساليب المستخدمة في قياس نسبة الذكاء». وتلفتُ الباحثة إلى أن الكفاءة الفكرية قابلة للتحسن بالفعل عن العصور السابقة، إذ تقول «نستطيع الاعتقاد بالفعل أن تحسين ظروف حياتنا من الناحية الطبية، والغذائية، وزيادة مدة التعلم، وتحسين شروط ما قبل الولادة وما بعدها، وتقليص حجم الأسرة، وتطوير الممارسات التربوية العائلة والمدرسية، وازدياد عدد الألعاب المحفزة للأجوبة السريعة، قد يجعلنا أكثر قدرة على إنجاز المهام المطلوبة في سلم الكفاءة الفكرية». وإذا ما نظرنا للواقع اليوم، نجدُ أن الكثير من الدول تقدمت كثيراً في هذا المجال، كما أن عدداً كبيراً من الدول تنمو باتجاه ذلك، ما ساهم بشكلٍ عام في ما تشير لهُ الباحثة. لكنها تؤكد أن «قياس اختلافات الذكاء بين الأفراد يجب أن يتم في وسط اجتماعي متجانس خشية أن يؤدي إلى نتائج غير دقيقة، أو أن يشجع على إطلاق الأحكام المسبقة على أساس عرقي وطبقي»، وفي الحقيقة إذا ما نظرنا إلى مجتمعنا اليوم، فإنا نرى العديد من الأحكام المسبقة التي تشيع عن شعبٍ ما، فقط لمجرد انطباعات خمنت بأنها قامت بقياس هذا الشعب أو ذاك، ما أباح لها أطلاق الأحكام عليه!الـ(IQ) ليس حقيقةً مطلقة! ترى (شوكرون)، إن قياسات الذكاء غير موضوعية، بل بعضها «اعتباطي تماماً»، نظراً لكون هذه الاختبارات، «تستند، بشكل مباشر، على الاختبار والمجموعة البشرية وكذلك على المعايير المستخدمة»، خاصة وأن الكثير من العوامل تلعبُ دوراً في حرف قياس الذكاء، «غالباً ما ننسى أن أداءنا المعرفي يتعلق بالعديد من العوامل التي لا ترتبط كلها بشكل مباشر بقدراتنا العقلية بحد ذاتها، وإنما أيضاً بحالتنا الجسدية والنفسية». كما أن العوامل البيئية تعدُ عاملاً جوهرياً كما أسلفنا، «أن الوسط الذي يحيط بنا قادر على تغيير التعبير عن قدرتنا الفكرية»، هذا إلى جانب أن «نسبة الذكاء ترتفع خلال فترة الطفولة، وتستقر في العشرين من العمر، ثم تتراجع بين الخمسين والستين عاماً». وترفضُ الباحثة، العديد من النتائج التي تربط بين نسبة الذكاء (IQ)، وما سيؤول إليه حال الفرد، إذ تقول «إن ربط قيمة نسبة الذكاء بأي شكل من أشكال النجاح هو مجازفة عبثية»، بل وتؤكد أنهُ لا وجود لأي دليل قاطع على أن نسبة الذكاء مرتفعةٌ بشكل استثنائي بين العباقرة. وتخلص الباحثة إلى أن «الفحوص المستعملة خلال اختبارات الكفاءة الفكرية لا تقيس إلا قدراتنا الظاهرة على استعمال عملياتنا المعرفية»، وقد تكون منفعة قياس الذكاء مقتصرة على ذلك، لمساعدت الباحثين والمعلمين على تطوير بعض الجزئيات المتعلقة بالعمليات المعرفية، وليس التكهن بمدى نجاح الأفراد أو فشلهم، فكما تؤكد (شوكرون) إن «دماغنا قابل للتغير بشكل مستمر تحت تأثير الظروف التي نعيشها على مدى الحياة».
مشاركة :