بدعوة كريمة من اتحاد الغرف العربية تمت دعوتي لإلقاء ورقة عمل – يمكن أن نتحدث عنها في مقال لاحق – في المؤتمر السادس للاستثمار في الأمن الغذائي، وقد تم إقامة المؤتمر في إمارة الفجيرة خلال الفترة من 14 إلى 15 نوفمبر 2018 بتنظيم رائع من غرفة تجارة وصناعة الفجيرة. واستكملت الروعة في هذا المؤتمر أنه وضع تحت رعاية كريمة من لدن حاكم الفجيرة نفسه صاحب السمو الشيخ حمد بن محمد الشرقي حفظه الله وقد قام سمو الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي العهد بافتتاح المؤتمر، وهذا مؤشر على أن هذا المؤتمر حظي باهتمام كبير من قادة دولة الإمارات العربية المتحدة وإمارة الفجيرة تحديدًا، وهذا أمر طيب خاصة بالنسبة إلينا نحن المتخصصين أو المهتمين بمثل هذا الموضوع؛ إذ نشعر بأن الأمن الغذائي والصناعات الغذائية وسلامة الأغذية من الأمور التي يجب أن يعاد النظر إليها، وخاصة ونحن نسير – كلنا كوطن عربي – في الطريق الذي يمكن أن يهدد حياة أجيالنا القادمة وذلك بسبب الفجوة الكبيرة التي تتزايد عامًا بعد عام بفعل حجم استهلاكنا للغذاء، وفي المقابل، فإننا لا ننتج الغذاء ولا نصنعه، وليس لدينا القدرة على المحافظة على سلامته أو فرض المواصفات التي تتناسب مع رغباتنا وأسواقنا. احتوى المؤتمر على حوالي 28 ورقة عمل موزعة على 5 جلسات عمل، وكان عديد من تلك الأوراق مقدما من بعض المنظمات الدولية المهتمة بالشأن الغذائي في العالم حيث جاءت لتعرض تجربتها في توفير الأمن الغذائي في بعض بقاع الأرض، وهذا مؤشر آخر على أهمية المؤتمر ونجاحه. والأمن الغذائي – كما تشير معظم التعاريف – أنها لا تعني أن تقوم الدولة بزراعة المواد الغذائية التي تحتاج إليها وتنمي الثروة الحيوانية في البلد نفسه، بل هي حالة من استمرار تدفق الغذاء وحصول المواطنين عليه، على أن تتوافر فيه عوامل التغذية الأساسية ويكون آمنا يضمن الصحة والسلامة. وقد عرفته منظمة الأغذية والزراعة بأنه «تأكيد حصول جميع أفراد المجتمع على الموارد الطبيعية والقوة الشرائية للحصول على ما يحتاجون من الغذاء» وهذا يعني أن مصطلح الأمن الغذائي يُشير إلى أن يتوافر الغذاء للأفراد من دون أي نقص ومهما كان مصدره، ويعتبر أنّ الأمن الغذائي قد تحققّ فعلاً عندما يكون الفرد لا يخشى الجوع أو أنه لا يتعرض له، ويستخدم كمعيار لمنع حدوث نقص في الغذاء مستقبلاً أو انقطاعه إثر عدة عوامل تعتبر خطرة ومنها الجفاف والحروب، وغيرها من المشاكل التي تقف عائقا في وجه توافر الأمن الغذائي. ويجد بعض الدارسين أن الأمن الغذائي ينشطر إلى مستويين رئيسيين وهما المطلق والنسبي، فيعرف المطلق أنه قيام الدولة الواحدة بإنتاج الغذاء داخلها بمستوى يتساوى مع الطلب المحلي ومعدلاته أو قد يفوقها أحيانًا، ويمكن اعتباره غالبًا بأنه يحقق مفهوم الاكتفاء الذاتي الكامل وهذا أصبح اليوم في هذا العصر صعب التحقيق، أما الأمن الغذائي النسبي فإنه يشير إلى مدى قدرة الدولة على إنتاج وإيجاد ما يحتاج إليه الشعب أو الأفراد من سلع وغذاء بشكل كلي أو جزئي. ليس مهما إن كنت أتفق مع هذه التعريفات أو لا، ولكن أجد أن الأمور تغيرت كثيرًا خلال العقدين الماضيين، فقد كان تعريف الأمن الغذائي سابقًا يتوافق مع الاكتفاء الذاتي، ولكن اليوم وفي عصر العولمة تغيَّرت بعض المفاهيم وهذا أمر طبيعي، ولكن بصورة عامة فإن التعاريف الحديثة أجدها تركز على ثلاثة أمور مهمة وأساسية لتحقيق الأمن الغذائي للأسرة، وهي: 1. توفير وسائل ضمان الإمداد الغذائي المناسب لجميع أفراد الأسرة. 2. ثبات المؤن الغذائية، بمعنى المخزون من الغذاء فترات تختلف باختلاف نوع المادة الغذائية. 3. الحصول على الغذاء على مستوى الأسرة والأفراد على جميع المستويات من دون أدنى خطر التعرض للمجاعات. إن تحقق ذلك فإنه يعني أن الأمن الغذائي للأسرة قد تحقق، ولكن هذا لا يعني أنه يوجد اكتفاء ذاتي، وذلك لأننا ما زلنا نستورد كل غذائنا من الخارج، سواء على مستوى الأسرة أو على مستوى البلد أو حتى العالم العربي. وإن كنا نتحدث بهذه السهولة إلا أن الأمر ليس بالسهولة والبساطة التي نتكلم عنها، فالأزمة الغذائية سواء في العالم أو في العالم العربي بالتحديد يمكن أن تدمر كل البنى التحتية التي نتحدث عنها، وحتى نعطي الموضوع حجمه وحقيقته فلنقتبس من تقرير التنمية المستدامة هذه الفقرة، وتحديدا من الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة الذي ينص على أنه لا جوع في العالم في 2030 «لا يزال الجوع الشديد وسوء التغذية يشكلان عائقا أمام التنمية المستدامة، ويخلقان فخا لا يمكن للناس الهروب منه بسهولة. والجوع وسوء التغذية يعنيان أفرادًا أقل إنتاجية وأكثر عرضة للمرض، ومن ثم غالبًا ما يكونون غير قادرين على كسب المزيد وتحسين أحوالهم المعيشية. وهناك ما يقرب من 800 مليون شخص يعانون من الجوع في جميع أنحاء العالم، أغلبيتهم العظمى في البلدان النامية». ويشير تقرير صدر عام 2017 عن منظمة الأغذية الزراعية بعنوان (حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم) إلى بعض من تلك الحقائق المهمة، فقد ورد في التقرير أنه «ارتفع عدد الأشخاص في العالم الذين يعانون من قصور التغذية المزمن في عام 2016 إلى 815 مليون نسمة، مقارنة بـ777 مليون نسمة في عام 2015. وإن كان العدد أقل مما كان عليه عام 2000 أي 900 مليون نسمة، ويضيف: «أصاب الهزال واحدًا من اثني عشر طفلا (52 مليونا) من بين جميع الأطفال دون الخامسة من العمر في عام 2016. ويعيش أكثر من نصف هؤلاء (27.6 مليون طفل) في جنوب آسيا». وفي مكان آخر يذكر التقرير «في عام 2016. ارتفع عدد الذين يعانون من قصور التغذية في العالم إلى ما يقدر بنحو 815 مليون شخص، مقارنة بـ777 مليون شخص في عام 2015. ولكنه لا يزال منخفضًا مقارنةً بـ900 مليون شخص في عام 2000. وبالمثل، في حين أنه من المتوقع أن يكون انتشار قصور التغذية قد ازداد إلى ما يقدر بـ11% في عام 2016. فإن هذا الرقم لا يزال أقل بكثير من المستوى الذي كان عليه قبل عقد من الزمن. ومع ذلك، فإن الزيادة الأخيرة تثير قلقًا بالغًا وتشكل تحديًا كبيرًا أمام الالتزامات الدولية بإنهاء الجوع بحلول عام 2030. ولم يتضح بعد ما إذا كان هذا الارتفاع الأخير في مستويات الجوع وانعدام الأمن الغذائي يشير إلى بداية الاتجاه التصاعدي، أو ما إذا كان يعكس حالة حادة عابرة. غير أن الانخفاض في مستويات ودرجة قصور التغذية قد تباطأ بشكل ملحوظ منذ عام 2010. ويأتي هذا الخبر المثير للقلق في سنة أعلنت فيها المجاعة في بلد واحد (جنوب السودان)، وتم فيها تحديد حالات انعدام الأمن الغذائي على مستوى أزمات معرضة لخطر التحول إلى مجاعات في عديد من البلدان الأخرى (بما في ذلك نيجيريا والصومال واليمن). وقد تدهورت حالة الأمن الغذائي بشكل واضح في أنحاء من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب شرق وغرب آسيا، ولوحظت حالات التدهور على الأخص في حالات نشوب النزاع، التي كثيرًا ما تفاقمت بسبب الجفاف أو الفيضانات». وفي العالم العربي يرتبط الأمن الغذائي بالأمن المائي بصورة متلازمة تمامًا، فلا يمكن الفصل بينهما، بالإضافة إلى ذلك فإن كل مناحي الحياة مرتبطة بالأمن الغذائي والأمن المائي، فتشير تقديرات المنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن قيمة الفجوة الغذائية العربية تقلصت من 28 مليار دولار عام 2010 إلى حوالي 24.2 مليار دولار في عام 2011. وارتفعت هذه الفجوة إلى نحو 40 مليار دولار في عام 2012. ويتوقع أن تبلغ هذه الفجوة أكثر من 70 مليار دور في عام 2020. وبحسب التقرير الاقتصادي العربي الذي يصدر عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية فإن المنطقة العربية هي أكبر منطقة في العالم تعاني من أكبر عجز غذائي. وتنحصر مشكلة الفجوة الغذائية في الوطن العربي بشكل أساسي في أربعة عناصر غذائية، وهي الحبوب (بجميع أشكالها وصورها)، السكر، والزيوت واللحوم، ويمكن أن نلاحظ أن هذا هو غذاء الإنسان، فماذا يمكن أن يأكل الإنسان غير الحبوب مثل القمح والأرز والذرة ومن ثم اللحوم والزيوت؟ كما أن المشكلة الرئيسية التي تواجهها الدول العربية المرتبطة بالأمن الغذائي هو الأمن المائي؛ ففي الدول العربية لا توجد أنهار تنبع من الأرض العربية فكل الأنهار تأتينا من خارج الحدود العربية سواء دجلة والفرات أو نهر النيل العظيم، لذلك فإن معظم الحيازات الزراعية في الوطن العربي تعتمد بصورة أو بأخرى على كميات المطر التي عادة ما تعاني من الشح طوال السنة. وتقول دراسة بعنوان (الفجوة الغذائية بالوطن العربي) للباحث مصطفى السعدني: «تتمثل المشكلة البحثية لهذه الدراسة في عدم قدرة الدول العربية على توفير غذاء سكانها على الرغم من توافر عديد من الموارد الزراعية في أقطارها الأمر الذي أدى إلى زيادة حجم وقيمة الواردات الزراعية الغذائية بأقطار الوطن العربي نتيجة تزايد حجم الفجوة الغذائية، وخاصة من الحبوب وأهمها القمح، بالإضافة إلى فجوة الزيوت النباتية والألبان وهي منتجات أساسية في الغذاء لشعوب المنطقة العربية، ما ترتب عليه زيادة درجة اعتماد الدول العربية على العالم الخارجي في توفير الغذاء. كما ترتب على تلك الفجوة عدم إمكانية توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية للفرد العربي، خاصة أن أكثر من ثلث سكان الوطن العربي يعانون من سوء التغذية، بالإضافة إلى أن الإنتاج العربي من المواد الغذائية لا يكفي احتياجات أكثر من ثلثي المنطقة العربية حيث يتم تعويض هذه الاحتياجات عن طريق الاستيراد. وتزداد حدة تلك المشكلة في ضوء ما يشهده العالم في الوقت الراهن من مختلف الظواهر الطبيعية والاقتصادية ذات التأثير على الأمن الغذائي للشعوب ومن أهمها التغيرات المناخية والتي كان من نتائجها التأثير على حجم المعروض العالمي من المنتجات الزراعية، بالإضافة إلى ما ترتب على الارتفاع المستمر لأسعار النفط من توجه الدول المتقدمة لمصادر الطاقة البديلة المصنَّعة من المحاصيل الزراعية الأساسية مثل القمح والذرة وقصب السكر وفول الصويا، الأمر الذي ترتب عليه تناقص المعروض من الغذاء من تلك المحاصيل وارتفاع أسعار الغذاء». عمومًا، ما تم طرحه هو جزء صغير من موضوع كبير، قد لا يضمه مؤتمر واحد أو حتى عدة مؤتمرات، بل يحتاج إلى قرارات حازمة، ويجب أن تتخذ هذه القرارات اليوم ولا تؤجل إلى الغد، لأنها كلما تأجلت فإن الفجوة ستزداد والمشكلة ستتفاقم، ويمكننا أن نختم حديثنا بأنه «لا خير في أمة تأكل ما لا تزرع وتلبس ما لا تصنع». وختامًا، نتقدم بالشكر لأصحاب السمو قادة دولة الإمارات وسمو حاكم الفجيرة وولي عهده على هذا الاهتمام وهذا التميز. Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :