تحقيق: نجاة الفارس «خريف الروائي وربيع الشاعر»، مقولة متداولة في الأوساط الأدبية؛ حيث يرى البعض أن أجمل كتابات الروائيين تكون في خريف العمر مع تقدم تجربتهم الروائية وزيادة نضوجها، بينما نتاج الشعراء الأدبي على العكس فتأتي قمة جماليته في ربيع الشاعر والطور الأول من تجربته الشعرية والشعورية، ترى إلى أي مدى يمكن أن يصدق هذا القول، وينطبق على الشعراء والروائيين؟. الروائي والقاص حارب الظاهري يرى أن التجربة الشعرية، هي تدفق إبداعي جميل يصل بالشاعر إلى مرحلة من الزمن، يرى فيها الشعر حالة خاصة أكثر من كونه حالة عامة، مثلما يتدفق النهر في جريانه إلى بحيرات صغيرة يصعب فهم اختبائها، ويصعب فهم الشاعر كونه ذا رؤية تستشرف على القادم، وهو سابق عصره بما يتأمل الحياة، وبذلك فالشاعر لا ينحسر مده، بينما الروائي يتجدد بتجدد الحكاية، ويقبل على الحياة بالكتابة التي لا يجف حبرها، وكلما امتد الكاتب بالحياة يظل هناك عدة فصول لم تكتمل ولم تشارف على الحياة، فالكاتب الروائي يبدأ حيث تنتهي الرواية، يبدأ حياة أخرى من الفصول المبتكرة المتوازية مع تجدد الفكرة، تجدد الأحداث، سواء كانت تاريخية أم اجتماعية.الروائي والشاعر أنور الخطيب، أشار إلى أن الإبداع محارب للزمن، والمبدع يعيش دائماً خارج زمنه في ممارسته للإبداع، ويحاول التحايل على الزمن، ومن جهة أخرى فهو شديد الالتصاق بالزمن، ولهذا أطلق النقاد ما يسمى بالزمن الروائي، أمّا شعريّاً فهو دائم المحاولة للإفلات من الزمن رغم أن الشاعر يسجل اللحظة الشعرية ويرصدها أو يوثقها أو يدغدغها في ظرف ما، ومن جهة أخرى لا تأثير للزمن، بمعنى العمر الزمني للكاتب أو المبدع بشكل عام، على الوقت أو السنة التي يبدأ فيها الإبداع أو التوقف عنه، بعض المبدعين بدؤوا مبكرين وانتهوا أيضاً مبكرين، وبعضهم بدأ متأخراً وانتهى متأخراً، أي في عمر متقدم، وهناك روائيون كثيرون ظلوا يمارسون الكتابة حتى الرمق الأخير مثل: نجيب محفوظ، وإدوار الخياط، والطيب صالح، وهناك من بدأ الكتابة متأخراً، كالكاتب البريطاني ألكسندر ماكال الذي أنهى كتابه الأول في عمر الخمسين، أما الإسباني جوزيه سارماجو فيقول: «لو توفيت قبل الستين لما عرفني أحد»، ولكنه واصل الكتابة بعد الرابعة والخمسين، وفاز بجائزة نوبل في الآداب عن روايته «الأعمى».وأضاف: «على صعيد الشعر، أذكر الشاعر اللبناني الراحل سعيد عقل الذي عاش مئة عام تقريباً وظل يكتب، وهناك الشاعر اللبناني عباس بيضون الذي بلغ السبعين ولا يزال ينتج، وكذلك الشاعران السوريان الراحلان نزار قباني وسليمان العيسى، والشاعران الفلسطينيان الراحلان محمود درويش، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، جميعهم أخلصوا للشعر فأخلص لهم القراء والشعر». وأوضح أنه مع هذه الأسماء، نعلم أن هناك ربيعاً دائماً للشاعر والروائي على حد سواء، فالمبدع يتمسك بالحياة من خلال إبداعاته، ومن خلالها يحارب الشيخوخة، والمبدع الحقيقي له مشروعه ويسعى دائماً إلى تحقيقه متجاهلاً الزمن.وقال الشاعر جاسم الصحيح: «السؤال عن حماس الشاعر وعطائه إن كانا يخبوان مع مرور الزمن، فهو يقترح ضمنياً عمراً افتراضياً للإبداع، وأنا أختلف مع هذا الاقتراح، وأرى أن نار الإبداع تشتعل عبر اتحاد ثلاثة عناصر هي الموهبة والمكتبة والتجربة، وما دامت هذه العناصر متحدة مع بعضها في معادلة واحدة؛ فإن نار الإبداع لن تخبو، لكن كما نعلم فإن بعض المبدعين يصاب بالملل مع تقدم السن؛ فيسقط عنصر من هذه العناصر ويبدأ إبداعه بالتلاشي». وأضاف: «من تجربتي الشخصية في كتابة الشعر أستطيع أن أقول، إنني مع تقدم العمر استطعت أن أجدد علاقتي مع اللغة، وما زلت أفعل ذلك، هذه العلاقة الجديدة مع اللغة لا يمكن أن تأتي بين عشية وضحاها، وإنما تحتاج للتجربة الكتابية، وللمماحكة مع المفردات ولوعي تاريخ اللغة في توظيفها الشعري التراثي، ولكسر تلك الألفة معها للخروج بعلاقة جديدة، وكل ذلك يحتاج للوقت والمكابدة الفنية، وهذه هي الحالة التي يجب أن يعيشها الشعراء من أجل استمرار ربيعهم، وما ينطبق على الشاعر ينطبق على الروائي من وجهة نظري، فتقدم السن يعني التورط أكثر بالحياة وقضاياها مما يؤدي إلى وعيها وإدراكها أكثر، وهذا ينعكس على الإبداع شعراً ورواية». وقالت الكاتبة والناقدة الدكتورة فاطمة حمد المزروعي: «صعب دائماً، إصدار أحكام تعميمية تصدق على معظم ما يتعلق بالإنتاج الأدبي، لأن العبرة تكمن في تطوير الأساليب، والإبداع في استحداث التقنيات السرية المتجددة، والعمل على استحداث الموضوعات، إذ إن الكاتب المجدد هو الذي يجعلك تستمر في قراءته دون توقف مهما تعددت كتبه، وتطور الكاتب من إصدار لآخر، كفيل بأن يجعل حضوره مستمراً، وبتجدده تتجدد تجربته ويمتد تأثيرها، ولنا مثلٌ في ذلك بالروائي الكبير نجيب محفوظ الذي كان في كل محطة من محطاته مغايراً، ومتجدداً في موضوعاته وفي تقنياته ومقاربته لعالمه السردي، والعمل الأول يشكل للكاتب تحدياً، فكيف يستطيع في العمل الثاني أن يتجاوز الأول لما هو أجمل وأكثر إشراقاً».الناقد والباحث الدكتور الفارس علي قال: «الشاعر الحقيقي تظل مخيلته تعمل بلا كلل ولا ملل، بل تزداد نصاعة ووضوحاً ونضجاً وعمقاً وقدرة على التحكم في أدواته الشعرية، ولعل أعظم الشعر هو ما خطته قريحة شاعر تقدم به عمره، فأفضل ما كتبه الشاعر الكبير الحساني عبد الله، هو آخر دواوين - من وحي الوافر-، وهو في التاسعة والسبعين من عمره، وكذلك محمود درويش نشر آخر دواوينه - لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي- في ٢٠٠٩ بعد وفاته، وظل عبد الرحمن الشرقاوي حتى آخر رمق يواصل كتابة مسرحياته الشعرية، وكذلك شوقي وحافظ إبراهيم ونزار قباني وصلاح عبد الصبور وأسماء شعرية لا حصر لها ظلت وفية للقصيدة حتى النفس الأخير».وأضاف: «في حين نرى أن كثيراً من الروائيين، انقطعت بهم السبيل في سن مبكرة، فلم يعد ينتج، واكتفى بكتابة المقالات الأدبية والاجتماعية والفكرية.. كما نجد أن أمة من كبار الروائيين مالوا في آخر أعمالهم إلى لغة شاعرية، حيث اللغة المكثفة شديدة الاختزال، والمشحونة بطاقة شعورية لاحدود لها».
مشاركة :