يصادف يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، ذكرى ولادة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، حيث تشرّف الكون بمولد سيد الخلق والمرسلين. ومناسبة ذكرى المولد النّبوي الشريف، هي من أغلى المناسبات الدينية التي يحتفل فيها المسلمون في كافة أرجاء العالم، حيث تقام العديد من الفعاليات الدينية والثقافية في هذا اليوم المجيد، وذلك بإقامة المجالس التي تنشد فيها قصائد لمدح النبي وبخاصة قصيدة «البردة» أو «الكواكب الدّرية في مدح خير البرية»، وهي إحدى أشهر القصائد في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كتبها الإمام محمد بن سعيد البوصيري في القرن السابع الهجري. مناسبة إسلامية عامة وتهتم كافة الدول الإسلامية في أرجاء العالم بهذه المناسبة الشريفة، حيث يتم الإعداد لها قبل يوم العيد بعدّة أيام، فتتزين الجوامع والمنابر العلمية خصيصاً لهذا الغرض، وتقام المحافل الشعرية الزاخرة بالمدائح النبوية والقصائد المحمدية، كما يقرأ القرآن الكريم على مسامع الجموع، فيما تنشط فرق الإنشاد بتقديم صور وألوان من المدائح النبوية. ويستحسن عديد العلماء الاحتفاء بهذا اليوم العظيم، على اعتبار أنه يساهم في رفع المستوى الثقافي لدى الفرد. وفي هذا اليوم يتم تقديم الطعام للفقراء والمحتاجين، وفي ذلك بعض من مظاهر الرّحمة والعطف على الآخرين، وهي صفة مستمدة من أخلاقيات الرسول الكريم الذي كان يدعو إلى الرحمة والتكاتف والتراحم بين أبناء البشرية جمعاء. ولعلنا في هذه الأيام العصيبة بحاجة ماسّة لإظهار التاريخ الإسلامي وتعميق الصلة بأحداثه المهمة، في الوقت الذي يغلب على عالمنا طابع الحروب والأزمات والهموم. فمن البديع والجميل إذن إن يدخل المسلم في هذه المناسبة العظيمة في جوّ يعيد له تاريخه وأصله وأمجاده، كما يذكّره بقيمه وشيمه ويدخل السرور على قلبه. ومن مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي الشريف: تعطيل الدولة والمؤسسات الرسمية والخاصة أعمالها يوم المولد النبوي الشريف، وجرت العادة بأن يجمع كل رجل عائلته من أبناء وبنات وأزواج وأحفاد، أو أقاربه وأبناء عمومته وجيرانه، ويدعو شيخاً من مشايخ الحيّ ممن يشهد لهم بالصلاح والتقوى والعلم وحسن الاطلاع على السيرة النبوية المطهرة، ويقص هذا الشيخ على الحضور قصة ولادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويحكي لهم عن بعثته وأخلاقه وهجرته. فرقة مالد تونسية تقدم عرضها في مهرجان البردة في أبوظبي 2018 (تصوير عادل النعيمي) فرقة مالد تونسية تقدم عرضها في مهرجان البردة في أبوظبي 2018 (تصوير عادل النعيمي) احتفاء إماراتي خاص تعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة في مقدمة الدول التي تولي مناسبة يوم المولد النبوي الشريف اهتماماً خاصاً، من خلال الاحتفالات الدينية التي تنظمها جميع إمارات الدولة احتفاء بهذا الحدث العظيم، حيث إن حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مليئة بالعبر والدروس التي تعد طريقاً يهتدي بنورها كل البشر، وأن الرسالة والسيرة المحمدية هي منهاج متكامل ومدرسة مفتوحة تستنبط منها البشرية أجمع كل ما تحتاج إليه من عبر ومواعظ ومواقف إنسانية. وهنا وبهذه المناسبة الدينية العظيمة يلزم أن نتذكر القائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» الذي سنّ ووجه بأهمية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وإكرام العلماء، وقد رسخ الشيخ زايد أهمية الاحتفال بهذه المناسبة، كونها من المناسبات العظيمة التي تحتفي بها دولة الإمارات كل عام، للتأكيد على عظمة الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والاستفادة منها في نهضة المجتمع واستخلاص المعاني السامية والجليلة والقيم الإسلامية العظيمة التي كان عليها المجتمع المسلم. (المالد) فن الخشوع ومن المظاهر الاحتفالية التي تبدو واضحة في احتفالات دولة الإمارات بهذه المناسبة تقديم (فن المالد) الذي يشتهر به مجتمع الإمارات، وتقدمه بالمناسبة عديد الفرق الدينية الإماراتية المحلية، في صيغ تتميز بالسمو وتبعث في النفس الطمأنينة والتسليم. و(المالد) هو أحد أهم أشكال الأناشيد الدينية، ومخصص للاحتفاء بالسيرة النبوية المحمدية العطرة والمدائح التي تتغنى بأخلاقيات الرسول العظيم، وهو فن متوارث تشتهر به فرقة عبدالله الهاشمي للمالد في أبوظبي، وما زالت معتزة بتقديم هذا اللون من الأناشيد والمدائح النبوية. ولـ(المالد) نوعان، أولهما يدعى «المولد»، وهو الذي تقدم فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقرؤها أعضاء المجموعة بالتسلسل، بينما تردد المجموعة بين فقرة وأخرى جملة (الصلاة على النبي). وبذلك يكون المولد معتمداً على المدح الجماعي أو الفردي ولكن بدون آلات موسيقية، باستثناء استخدام آلة «الطار». أما المالد الحقيقي، فهو فن جماعي تضاف عليه (شلاّت دينية) بمصاحبة «الطار» في بعض الأحيان، وتكون مجموعة المنشدين مقسمة إلى صفين متقابلين جلوساً، لكل صفّ قائد يجلس في الوسط وله ثلاثة مساعدين يتناوبون ترديد الأشعار الدينية. ومن طقوس (المالد): تطييب المكان بعطور العود والبخور وماء الورد، وهي عادات خليجية مشهورة. وقديماً لم يخل عرس في الإمارات من إحياء (المالد) الذي يقام عادة بعد صلاة العشاء ويسبقه أداء عرضة (العيالة)، وهي مظهر احتفالي فلكلوري بديع، تمزج بين الشعر المغنّى والحركات والغناء والموسيقى. وتبدأ مراسيم إقامة (المالد) بالرّدة التي ترد على لسان المجموعة ممن لا يحملون آلات (الطارات) فيستهلونه بشيلة أولية يقودها المدّاح، في حين ترد عليه المجموعة بجملة (صلى الله عليه) فيقول مثلاً: «بكى الغريب لفقد الدار والجار، إن الغريب فجيع دمعه جاري»، وتعود المجموعة للرد عليه بكلمة (صلى الله عليه)، ويدخل ذلك في باب استخدام ظاهرة (الراوية) وتمازج الأداء الفردي والجماعي بما يعرف بالثنائيات الأدائية في المسرح، في حين تجد فن القصص القرآني بارزاً في فن (المالد) مثل معجزة الإسراء والمعراج التي حدثت للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فيبدأ القص بالقول: «صلي يا رب على أحمد، النبي المختار طه المؤيد الممجد، نوره لا يتناهى، الأمين أتاه ليلاً بالبراق أسرع دناها، قال اركب يا محمد لتنل فخراً وجاهاً، قدر ما سبع الطباق في دجى الليل طواها». احتفال رسمي تحتفل الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف في أبوظبي كل عام بهذه المناسبة العظيمة من خلال تنظيم احتفال رسمي بحضور العديد من كبار الشخصيات في الدولة، ولفيف من رجال الدين المسيحي، وسط أجواء من التسامح والمشاركة الروحانية التي تمتاز بها الاحتفالات الدينية في الدولة. ويشتمل برنامج الاحتفال في العادة على تقديم التهنئة بالمناسبة للقيادة الحكيمة في البلاد، وتهنئة جميع الشعوب العربية والإسلامية، ثم كلمات تبرز قيمة وأهمية المناسبة، والحديث عن منهجية التسامح والسلام في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والترحم على شهداء الوطن الأبرار. أحمد شوقي أحمد شوقي بين البوصيري وشوقي.. «البردة» سيّدة المجالس تجذب بردة البوصيري وبخاصة قصيدة البريئة معظم الفرق التي تؤدي المالد ومطلعها: «أمن تذكر جيران بذي سلم/ مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم/ أم هبت الريح من تلقاء كاظمة/ وأومض البرق في الظلماء من إضم/ فما لعينيكَ إن قلتَ اكففا هَمَتا/ ومَا لِقَلْبِك إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يهم». وفي فن (المالد) غالباً ما تتم الاستعانة كما ذكرنا بقصيدة البردة للإمام البوصيري، وقصيدة نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي، وقصائد بعض شعراء الصوفية، ولكأن تتخيل هنا تلك الأجواء الشعرية والصور الفنية الرائعة التي تحتويها مثل هذه القصائد أمام جمع ممن حضروا للاحتفاء بمولد نبينا العظيم، ناهيك عن أن المالد، هذا الفن الموروث منذ مئات السنين، ما زال محافظاً على هيبته ومفرداته كنموذج ديني إنساني تهتم به الفرق والمؤسسات الدينية والثقافية في الإمارات. وفي السياق تعتبر قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي من أروع قصائد المدح النبوي، لبساطة الكلمات وعذوبة الألفاظ، كما أنها سهلة الشرح والفهم: ريم على القاع بين البان والعلم أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم رزقت أسمح ما في الناس من خلق إذا رزقت التماس العذر في الشيم
مشاركة :