طموح وإنجاز وقصور وعمل غير منجز. خطوات إلى الأمام، وإجراءات تضمن النجاح وتؤدي إلى الاستقرار، لكن النجاح مجتزأ والاستقرار منتقص. وإذا كان التعليم مفتاح نجاح الأمم، واستقرار الدول، واستمرار التحضر، فإن عورات كثيرة عرقلت مسيرة دول عدة في منطقتنا العربية تاركة إياها أمام ترسانة من التحديات تهدد التوقعات. «توقعات وتحديات» عنوان فرعي لتقرير رئيسي صدر قبل أيام في القاهرة عن البنك الدولي موضوعه حال التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. «إطار جديد للتعليم» هو ما يشير إليه التقرير الصادر في ظرف تمر به دول المنطقة هو الأصعب في تاريخها الحديث. تاريخ المنطقة الحديث يحوي مفهوم «التعليم كالماء والهواء» الذي أرساه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وقت كان وزيراً للمعارف! وما أدراكم ما المعارف التي هي ليست بالتعليم أو بالتربية فقط، أو بالعلوم والآداب وحدها، أو بالثقافة والفنون دوناً عن غيرها، بل تجمع كل ما سبق. وتاريخ المنطقة الحديث يحوي كذلك ما قاله المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، من أن «رصيد أي أمة متقدمة هو أبناؤها المتعلمون، وأن تقدم الشعوب والأمم إنما يقاس بمستوى التعليم وانتشاره». مستوى التعليم وانتشاره هو ما يدور حوله محتوى التقرير المهم الذي لم يجد خيراً من هذه المقولة لتكون مقدمته. مقدمة ابن خلدون التي كُتِبت قبل 641 عاماً بالتمام والكمال حذرت من أولئك الذين يتعلمون ولكن لا يستفيدون أو يفيدون. وقال في مقدمته الشهيرة: «فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة». الحاجة إلى الحفظ والصم أعيت المنطقة. ويحوي التقرير رسماً بيانياً مؤسفاً في يساره ومبهجاً في يمينه، إذ يعرض نسبة طلاب وطالبات الصف الثامن الذين يُفرَض عليهم حفظ المعلومات والقواعد العلمية في دول المنطقة. يسار الرسم يحتوي على الدول الأعلى في المنطقة، حيث مصر (60 في المئة) يليها كل من لبنان والسعودية والأردن وعمان، حيث 60 في المئة من طلاب الصف الثامن يصمون ويحفظون. وعلى يمين الرسم الدول الأقل حفظاً وصماً في المنطقة وبينها الإمارات والكويت والمغرب والبحرين وتتراوح نسب الطلاب من المجبرين على الحفظ فيها بين 44 و49 في المئة. سنوات طويلة من جهود الإصلاح ومحاولات الترميم أثمرت إنجازات بالطبع، لا سيما وأن مفهوم التعليم مغروس في حضارات المنطقة منذ قرون. لكن ما كان صالحاً قبل قرون قد لا يكون كذلك حالياً. وعلى الرغم من أن الاستثمارات الكبيرة التي وضعها أغلب دول المنطقة في التعليم على مدار العقود الخمسة الماضية حققت نمواً مبهراً في معدلات التحاق الصغار بالمدارس، ومزيداً من التكافؤ بين الجنسين في كل مستويات التعليم، إلا أن ذلك لم يٌتَرجم اقتصادياً ومن ثم اجتماعياً. وهو ما يفسر عدم تلبية تطلعات الغالبية المطلقة من سكان المنطقة والبالغ عددهم نحو 435 مليون نسمة. وكأن الفجوة بين الاستثمارات في التعليم من جهة، والمحصلة النهائية المترجمة اقتصادياً في سوق العمل ونسب البطالة ومعدلات الشعور بالعدل وتحقيق التطلعات من جهة أخرى لم تكن كافية، فإذا بالمنطقة تخوض سنوات عجافاً من التهديدات الأمنية والمنعكسة سلباً على تفاصيل الحياة. وتظل معدلات النمو الاقتصادي في المنطقة منخفضة بإصرار عجيب في سنوات ما بعد «الربيع» المنقلب خريفاً. ارتفعت معدلات البطالة بين شباب المنطقة، وتدهورت نوعية الخدمات العامة المقدمة لعدد كبير من شعوب المنطقة، ناهيك عن توترات متصاعدة ناجمة عن صراع خفي بين العادات والتقاليد (وبعضها يرتدي رداءً دينياً رغم إنه ليس كذلك) من جهة، وبين الحداثة ومتطلبات التطوير ومواكبة التغيير والاستعداد للمستقبل من جهة أخرى. توترات أخرى يرصدها التقرير تتراوح بين هوس الحصول على شهادات وتجاهل حتمية اكتساب المهارات، مع هيمنة مفهوم الانضباط والانصياع على حساب التفكير النقدي وتشجيع الابتكار. ابتكار الحلول لسد الفجوات بين الجهود المبذولة والنتائج العصية على البلورة ليس مستحيلاً، كما أنه بات أولوية قصوى. ففي كل مرة تشرق فيها شمس يوم جديد على المنطقة، تتهشم تطلعات، وتتزايد تحديات، وتتفاقم صدمات أجيال شابة مسلحة بشهادات لا تنفع ومفتقدة مهارات لا غنى عنها في سوق العمل. العمل على الدفع والجذب والميثاق هو مفتاح الخروج من دائرة التعليم والعمل المفرغة. مطلوب دفع متناسق نحو التعلم في وقت مبكر من حياة الصغار مع معلمين مؤهلين والجميع مسلح بتكنولوجيا ونهج حديث في التعليم. وبعد الدفع نحو التعلم يأتي الجذب للصقل بأكبر كم ممكن من المهارات من قبل سوق العمل والمجتمع. ويستظل كل من الدفع نحو التعليم والجذب صوب المهارات بميثاق جديد للتعليم على المستوى الوطني يحوي رؤية موحدة ومشاركة المسؤولية والمساءلة.طباعةEmailÙيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :