حكايات نسوية ومجتمع ذكوري وقصص رجال طموحين

  • 11/19/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بيروت - تختصر المخرجة اللبنانية لينا أبيض في مسرحيتها الأخيرة بعنوان “طيور أيلول” المسافات بين القرية والمدينة وبين الجيل القديم والشباب وبين الأدب الكلاسيكي والمسرح التجريبي. والمسرحية مقتبسة عن رواية للكاتبة اللبنانية الراحلة إميلي نصرالله كانت قد نشرتها سنة 1962، وقدمت أخيرا على خشبة إروين في حرم الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت حيث يؤدي أدوار شخصياتها طلاب المسرح في الجامعة. إن تحويل عمل أدبي سواء أكان رواية أم قصة أم قصيدة إلى عمل ممسرح، ينتقل به من فضاء المكتوب إلى عالم الصورة والمشاهدة، ليس بالأمر اليسير، خاصة إذا كان العمل الأدبي الذي يراد الاشتغال عليه من الأدب الكلاسيكي المتميز بتشعباته ولغته الخاصة. لكن ذلك لم يمنع المخرجة اللبنانية لينا أبيض من الاشتغال مسرحيا بشكل مفاجئ على واحد من أهم النصوص الكلاسيكية اللبنانية رواية “طيور أيلول” لإيميلي نصرالله. قصص النساء والرجال في الأصل تنتمي رواية “طيور أيلول” إلى الأدب الكلاسيكي وأبطالها قرويون من بلدة الكفير البعيدة في جنوب لبنان وتتناول قضايا الهجرة وقصص الحب المبتورة والكبت والتمييز الجنسي وأحلام الشباب صعبة التحقيق. وكان من الصعب إعدادها ومسرحتها بلغة شباب اليوم وبمشاهد بسيطة خفيفة تبتعد كل البعد عن قساوة حكاياتها التي لا يزال يعاني منها اللبنانيون وإن بوجوه مختلفة. فما كان على أبيض إلا اختيار المسرح التجريبي لاختراق رصانة الرواية. أما المفتاح الأول لعصرنة النص فكانت اللهجة اللبنانية المتداخلة أحيانا مع الإنكليزية وعبر اختيار التمرينات كحدث أساسي تدور خلاله وفي فلكه المسرحية. فالعرض كله يدور في مشاهد تمرينية يتدرب فيها الطلاب على صياغة حوارات إميلي نصرالله وتحويلها إلى نص مسرحي مرِن وإلى التدرّب على أداء شخصيات الرواية الشهيرة في المجتمع اللبناني وهي مرسال ونجلا وحنّة ومريم ومنى. في البداية تقف المخرجة إلى يمين الخشبة وتعلن بدء المسرحية وتوجه الممثلين الواقفين على المسرح بثياب بسيطة رياضية ومريحة جدا ليأخذوا أماكنهم وترتيب الديكور. ثم تبدأ الأحداث ليكتشف الحضور لاحقا أن العرض قد بدأ. شيئا فشيئا تتراكم الأحداث ويدخل المشاهد بقلبه وإحساسه وعقله في صلب السيناريو فتظهر قصص النساء اللواتي يمنعن من الحب والحديث على صوت عال وقصص الرجال الذين لا يمكنهم تحقيق أحلامهم لضيق الأفق في القرية التي يعتمد أهلها في معيشتهم على الزراعة ولا سيما الزيتون. الممثلون رغم صغر سنهم أدوا أدوارهم ببراعة رغم بعض الهفوات وقد تباحثوا على المسرح في كيفية أداء هذه الأدوار والبحث في مدى واقعية وحداثة القصص التي كتبتها نصرالله في الرواية مثل الاغتصاب والزواج المبكر وفض البكارة. كما كانوا يناقشون قساوة المشاهد التي يؤدونها وكيفية علاجها على المسرح وأهمها مشهد وداع ناجي الذي قرر الهجرة إلى الولايات المتحدة تاركا حبيبته وأهله يعانيان ألم الانفصال. لكن الأداة التي طغت على كل ذلك البوح عن الحكايات النسوية والمجتمع الذكوري وقصص رجال طموحين يسعون إلى حياة أفضل وكانت أكثر تميزا في الديكور البسيط. اختارت أبيض أن يمسك أحد الممثلين مكبر صوت حديث الصنع مع عصا طويلة ويلحق به زملاؤه الممثلون عندما يأتي وقت البوح بأسرار يجب ألا يعرفها أحد مثل لقاء العشاق أو أسرار مريم عن حبها الأسطوري أو مرارة حكاية زواج ليلى بالقوة من رجل يكبرها سنا. قصص النساء اللواتي يمنعن من الحب والحديث على صوت عال وقصص الرجال الذين لا يمكنهم تحقيق أحلامهم كان مكبر الصوت هو صوت إميلي نصرالله أو صوت الراوي الذي كشف أسرار هذه الشخصيات وكان في الوقت نفسه الصوت الذي يجب أن يبقى خلف الجدران ولا يجب أن يعرف به الأهل والجيران وأهالي الضيعة الذين لا يحفظون سرا. كان صوت الحب المقموع وقتل البنات لمجرد أنهن أحببن فقط. الهروب من الكلاسيكية سعت لينا أبيض إلى تخطي الزمن في تجسيد المشهد الحسي والشاعري في الرواية وذلك بواسطة ديكور بسيط هو عبارة عن كرسي من الخشب وأغطية لنشر الزيتون عليها وفوط بيضاء بالإضافة إلى السماء الزرقاء في خلفية المسرح التي تلطخت بالدماء عند مقتل مريم. وقالت لينا أبيض “قرأت أعمال إميلي نصرالله كلها ولكنني اخترت مسرحة ‘طيور أيلول‘ لأنها تمثل بالنسبة إلي نقطة البداية الدائرية لأدب نصرالله وقصصها الحقيقية والإنسانية وحياتها التي أقفلت مع كتاب ‘المكان‘ الذي صدر بعد وفاتها” في وقت سابق من هذا العام. وأضافت أنها “هربت من الكلاسيك من خلال اختيار المسرح التجريبي ودوران الأحداث خلال التمرينات حيث كل شيء مسموح للتخفيف من وطأة النص الأساسي الكلاسيكي على المشاهد”. وأشارت إلى أنها “لا تؤمن عادة باستخدام اللغة الفصحى على الخشبة وتفضل اللغة الدارجة التي تصل إلى المشاهد بسلاسة”. وتابعت “هنا أردت أن أقرّب نص الرواية من يومنا وعصرنا الذي لا يزال يعاني من قصص الحب الممنوعة بين الأديان والزواج المبكر والقسري والهجرة التي تتزايد. وأردت أن أقرب هذه المواضيع من المشاهد الشاب والمخضرم، فكان من المستحيل أن أوصل كل الرسائل التي تتضمنها المسرحية بالفصحى”. وقالت المخرجة الشابة دارين شمس الدين بعد مشاهدتها المسرحية إنه “عرض ساحر جمّل نص إميلي نصرالله ورفعه إلى أن يكون حديثا بامتياز. دخلت إلى المسرحية محتارة كيف يمكن تحويل رواية أدب شعبي وكلاسيكي إلى مسرحية مع مخرجة بعيدة كل البعد عن النمطية والكلاسيكية وإذا بي أخرج بمسرحية فيها كمّ من المشاعر والصدق والخفة والذكاء”.

مشاركة :