السوي يفتخر بوطنه كما جرير بأبيه

  • 11/19/2018
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

كتبت أول أمس مقالا بدأته بقولي إن الله أكرمني بأن جعلني سودانيا، ولم أكن أعني بذلك أن السودان جنة الله على الأرض، أو أن بني وطني هم شعب الله المختار، بل عبرت عن مشاعر كتلك التي تجيش في صدر كل شخص سويّ تجاه وطنه؛ فمن لا يحب وطنه معتل نفسيا وعاطفيا وسياسيا واجتماعيا، فكما قلت في مقال قديم فإن الوطن ليس فندقا تهجره وتشتمه وتقطع علاقتك به نهائيا إذا ساءت فيه الخدمات، فهو الأم والأب وكافة الأقارب والجيران والأصدقاء ثم عامة الناس، وكلام الناس عن حب تراب الوطن المقصود به التراب الذي عاش فيه الانسان ومشى عليه هو وأحبابه، وحقيقة الأمر هي أن كل إنسان يحب مدينة أو قرية أو بلدة أو منطقة معينة في بلاده أكثر من غيرها، وحب الوطن ينطلق من رقعة الحب الصغيرة الى المحيط العام، وشخصيا أحب الأماكن في السودان الى قلبي هو جزيرة بدين موطن أجدادي وعموم أهلي، وأحب مدينتي كوستي والخرطوم بحري، وأعشق إقليم كردفان في غرب السودان الأوسط بطبيعته الخلابة وأهله الفرايحيين، ولا أكنّ الكثير من الود لعاصمتنا الخرطوم كـ«مدينة»، ربما لأنها مقر الحكومة و«رسمية»، ولكنها تبقى عالية القيمة في وجداني كرمز كبير لوطني. السويسري لا يحب وطنه لأنه كثير الخضرة والبحيرات، والأمريكي لا يحب بلده لأن فيه طبيعة خلابة ومدينة ديزني ومثيلات أنجلينا جولي والقنابل الذرية، وباختصار فإن المواطن السوي يظل يحب بلاده ويتمنى له الخير مهما كان الحال فيه ما دون الـ«زِّفت»، أقول قولي هذا وأنا مدرك أن اسم بلدي ارتبط في أذهان الرأي العام العالمي بأشياء قبيحة، بل واعترف بأن القبح يطالعك في مدنه، وأن البؤس وشم في وجوه معظم مواطنيه، ذلك لأنه منذ أن نال استقلاله وقع ضحية حكام حزبيين يضعون مصالحهم ومصالح الحزب فوق مصالح الوطن، أو عسكريين لا يعرف الصلاح طريقا الى نفوسهم. على الدوام يحضرني ما فعل الشاعر الأموي جرير بن عطية عندما أتاه أحدهم وسأله عن أشعر العرب، فقاد جرير سائله الى مدخل حظيرة للبهائم، وكان بها عجوز متسخ الثياب يرضع مباشرة من ضرع معزة، ثم قال: إن رجلا يفاخر جميع شعراء العرب بمثل هذا الأب ويفحمهم لهو أشعر العرب. الوطن سيم سيم مثل والد جرير، فمهما كان الحال فيه مائلا وبائسا، فإنه يظل الرحم الكبير الذي خرجت منه أنت واللي خلفوك، وهو الرحم الذي سيضمك عند انتهاء تاريخ صلاحيتك كآدمي حي، وأعلم ان عشرات الآلاف من السودانيين دفنوا في تراب غير تراب وطنهم، وأن بضعة ملايين منهم ضربوا في أصقاع الأرض يطلبون الرزق الحلال أو الأمان، وأن كثيرين منهم استقروا أو يحلمون بالاستقرار في أوطان بديلة، ولكن هذا لا يعني أن سودانيي المهاجر قطعوا صلة الرحم بالوطن، بل ورغم ان السودان يتقدم الآن الى الخلف بخطى واسعة فإن السودانيين الذين حصلوا على جنسيات بلدان أخرى يعودون بعيالهم الراطنين بلغات عديدة الى السودان بانتظام «عشان الأولاد ما ينسوا جذورهم ولغتهم وأهلهم وعادات أهلهم»، وليس معنى هذا أن السودان هو المدينة الفاضلة وأن السودانيين «مُكمَّلون» من حيث الأخلاق والسلوك، ولكنه يعني أننا معتزون بكثير من القيم الإيجابية المتوارثة ولا نريد لها الزوال، ونريد لعيالنا أن يتشبعوا بها. في الدول الغربية لا يتكلمون عن القيم الهولندية او السويسرية او الألمانية، بل عن القيم الغربية، ويعنون بها فيما يعنون قيم الحرية الفردية وما يتبعها من حرية الرأي والتعبير والاختيار الحر في كل المجالات في حدود القوانين والدساتير، أما في بلداننا فإن تلك القيم حلم بعيد المنال حتى الآن، ولكننا نتفوق على الغربيين بقيم الترابط الأسري والتكافل الاجتماعي والخضوع لضوابط أخلاقية دينية ومجتمعية، وندرك أن قيمنا هذه بدأت تهتز وتختل وصار هناك من يعتبرها «سلبية وموضة قديمة»، ولكنها حتى في حالة وهنها هي ما يعطي أوطاننا خصوصيتها وروحها الحلوة. إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

مشاركة :