تزامنا مع موافقة وزراء دول الاتحاد الأوروبي على مشروع اتفاق بريكست، مازال مشروع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي يثير جدلا في الأوساط البريطانية، لتختلف المواقف بين مؤيدين ورافضين، في وقت اعتبر فيه الكثير من المتابعين لمآلات اتفاق “بريكست” أنه ربما يكون حدا فاصلا لمسيرة ماي السياسية في ظل تعدد السيناريوهات المرافقة لمشروع الخروج من الاتحاد الأوروبي والتي من بينها إما إجراء انتخابات مبكرة أو إجراء استفتاء جديد على مشروع الاتفاق أو الخروج من الاتحاد دون اتفاق. لندن – فوضى سياسية عارمة تعيشها بريطانيا منذ أن أعلنت رئيسة حكومتها تيريزا ماي مسودة مشروع الاتفاق الذي ينظم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وهو ما دفع مجموعة من الوزراء في حكومة ماي إلى الاستقالة، من بينهم دومينيك راب الذي كان مكلفا بشؤون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، علاوة على دفع مجموعة أخرى من الوزراء إلى التكتل بهدف الضغط على ماي لتعديل بنود الاتفاق. يضاف إلى كل هذه التطورات تحرك مجموعة من نواب حزب المحافظين الحاكم للمطالبة بالتصويت لحجب الثقة عن حكومة ماي في مجلس العموم البريطاني. ومع تصاعد الخلاف داخل حزب المحافظين الحاكم، يرى زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربين أن الحل الأمثل هو إجراء انتخابات مبكرة للتخلص من حكومة المحافظين. أما تيريزا ماي نفسها فقد وضعت الجميع أمام خيارين، أحلاهما مر: الخيار الأول هو الخروج من الاتحاد الأوروبي دون أي اتفاق، وهو ما سيؤدي إلى قائمة طويلة من المشكلات والأزمات، خاصة بالنسبة للشركات والمؤسسات البريطانية التي تعتمد على بيع منتجاتها وخدماتها في السوق الأوروبية أو استيراد السلع من هذه السوق التي تعد أكبر شريك تجاري لبريطانيا، ويتم من خلالها التعامل في أكثر من 40 بالمئة من التجارة الخارجية البريطانية. وعلاوة على ذلك يرجح احتمال خروج الكثير من الشركات الأوروبية والدولية، مثل الشركات الصينية واليابانية، من السوق البريطاني بسبب الحواجز الجمركية بينه وبين السوق الأوروبية الموحدة. أما الخيار الثاني فهو قبول الاتفاق الذي توصلت إليه ماي مع الاتحاد الأوروبي، والذي ترى أنه يحقق مصالح بريطانيا، ويحقق رغبة الناخبين الذين صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتؤكد أن مجرد إقصائها من موقعها، كرئيسة للوزراء، لن يغير من واقع العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ولن يجعل عملية الخروج من الاتحاد أسهل مما هي عليه. هناك مجموعة من المشكلات والعيوب في هذا الاتفاق تبرر الانتقادات الواسعة التي وجهت له. وتتلخص العيوب والمشكلات في: أولا، أنه حسب هذا الاتفاق ستخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس 2019، ولكنها ستدخل في فترة انتقالية تستمر حتى نهاية ديسمبر 2020. وخلال هذه الفترة ستخضع بريطانيا لكل اللوائح المتبعة في الاتحاد الأوروبي دون أن يكون لها حق التصويت على هذه القواعد. وفي المقابل ستتمتع بريطانيا بحرية التجارة داخل السوق الأوروبية الموحدة دون قيود. وهذا الوضع يعني أنها ستكون مجرد تابع للمؤسسات الأوروبية دون أن تكون لها القدرة على التأثير. وفوق كل هذا فإن الفترة الانتقالية يمكن تمديدها بموافقة الطرفين، دون أجل محدد. بل إن ميشيل بارنيه رئيس فريق التفاوض في الاتحاد الأوروبي، يقترح تمديد الفترة الانتقالية حتى نهاية عام 2022، الأمر الذي يعني أن هذا التمديد أمر شبه مؤكد بسبب العلاقات الاقتصادية الواسعة بين بريطانيا والاتحاد. ثانيا، في حال تمديد الفترة الانتقالية بعد نهاية عام 2020، فإن بريطانيا ستدخل مع الاتحاد الأوروبي في علاقة تستند إلى أحد أشكال الوحدة الجمركية التي تمت تسميتها “الأراضي الموحدة جمركيا”. وتضمن هذه العلاقة حرية التجارة في كافة السلع بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي دون قيود، باستثناء الأسماك، ومرة أخرى ستخضع بريطانيا لكافة القواعد والإجراءات واللوائح المنظمة للتجارة في السلع التي يضعها الاتحاد الأوروبي. وعلاوة على هذا فإن الوحدة الجمركية المقترحة تضمن للدول التي تعقد اتفاقيات تجارية مع الاتحاد الأوروبي، مثل الصين أو كندا أو الولايات المتحدة، حرية الدخول للسوق البريطاني في إطار القواعد المتفق عليها مع الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن الصين مثلا يمكن أن تتفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول قطاع تجاري معين، ويتم تطبيق الاتفاق على السوق البريطاني دون أن يكون للحكومة البريطانية دور في الاتفاق. ثالثا، نظرا لأن أيرلندا عضو بالاتحاد الأوروبي، بينما إقليم أيرلندا الشمالية هو جزء من بريطانيا، فقد رفضت أيرلندا تماما وجود حدود تجارية بين الجانبين على أساس أن هذا هو ما يضمن استمرار اتفاق “الجمعة الطيبة”. وقبلت بريطانيا هذا الوضع في الاتفاق.وهذا يعني أن وضع أيرلندا الشمالية سيختلف عن وضع باقي الأقاليم في بريطانيا من حيث علاقته مع السوق الأوروبية. ولعل هذه النقطة المتعلقة بالوضع الاستثنائي لأيرلندا الشمالية هي أسوأ ما في الاتفاق من وجهة نظر المعارضين له. رابعا، نظرا لأن قطاع الخدمات المالية له أهمية خاصة لبريطانيا، فإنه تم الاتفاق على أنه لن يكون مشمولا باتفاق الوحدة الجمركية مع أوروبا. و سيسمح للبنوك وشركات التأمين البريطانية بالعمل في السوق الأوروبية الموحدة في ظل اتفاقيات خاصة تشبه ما هو متاح حاليا للبنوك الأميركية. خامسا، سوف تلتزم بريطانيا بسداد كل المدفوعات المالية التي تم الاتفاق عليها مع الاتحاد الأوروبي حتى نهاية عام 2020، مع تأكيد الاتحاد الأوروبي أنه تم التفاوض على آلية حساب هذه المدفوعات وليس على قيمتها تحديدا. ويقدر بعض الاقتصاديين هذه المدفوعات بنحو 50 مليار جنيه إسترليني، وهي فاتورة طلاق بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن ثمة، تبدو صورة الاتفاق غير مشجعة بالنسبة لكثيرين لأن الاتحاد الأوروبي، ببساطة، فرض كل الشروط التي يريدها على بريطانيا مقابل شكل من أشكال الوحدة الجمركية التي تضمن لبريطانيا حرية التجارة في السلع مع السوق الأوروبية بلا قيود. أما في ما يخص ما حصل عليه الاتحاد الأوروبي فهو خضوع بريطانيا لكل القواعد والقوانين المنظمة للتجارة في السلع، وضمان عدم وجود حدود تجارية في أيرلندا، وضمان ألا تتمكن بريطانيا من تخفيض الضرائب بشكل يضر بقدرة الشركات الأوروبية على المنافسة. وحصلت ماي على مكسب وحيد هو السيطرة على عملية هجرة الأوروبيين لبريطانيا بحيث أنه، بعد مرور الفترة الانتقالية، لن يسمح للأوروبيين بالعمل في بريطانيا إلا بعد الحصول على تصريح عمل شأنهم شأن مواطني الدول الأخرى. أما الثلاثة ملايين أوروبي الذين يقيمون بالفعل في بريطانيا، علاوة على مليون بريطاني يقيمون في مختلف الدول الأوروبية، فلن تتأثر أوضاعهم أو حقوقهم بالاتفاق المقترح.
مشاركة :