منذ بدأت المناوشات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أصبح اقتصاد الأخيرة «تحت المجهر» بصورة أكبر بسبب المخاوف من تراجع النمو الصيني الذي يشكل أحد أهم أركان انتعاش الاقتصاد العالمي ككل. لذا، فقد كان «مريحًا» إعلان الصين عن ارتفاع صادراتها إلى الولايات المتحدة بنسبة %13.2 بينما ارتفعت وارداتها من واشنطن بنسبة %8 خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2018 مقارنة بنفس الفترة من عام 2017، وذلك بعد تراجعها في الأشهر الثلاثة الأولى، بفعل النمو الكبير للاقتصاد الأميركي بالأساس. تكرار للتجربة الأميركية؟ وعلى الرغم من ذلك فإن نمو الصين في الربع الثالث من عام 2018 جاء بنسبة %6.5 فحسب لتسجل بكين أدنى معدلات نموها منذ عقد (متأثرة بالأزمة المالية العالمية حينها)، ويرجع ذلك بالأساس إلى المخاوف التي دفعت الاستثمارات لتأجيل بعض خطط التوسعات في الصين، والمخاوف من زيادة الديون الصينية. وتفاقم القلق من حجم الديون الصينية، ولم تكن تلك المخاوف قائمة في ظل النمو الصيني الكبير، ولكن مع القلق من احتمال تراجع النمو ذاته أصبحت الديون الصينية أمرًا مقلقًا. واللافت هنا أن نسبة الديون الصينية لا تزال تقل كثيرًا عن نظيرتها الأميركية (الحديث حول الديون الحكومية بالتحديد) إذ تصل ديون الحكومة الأميركية إلى %104 من الناتج القومي لعام 2017، وتبلغ النسبة نفسها %46 في الصين. وتبدو المقارنة بين مستوى الديون الصينية في الوقت الحالي ومستوى الديون الصينية في «فترة النمو القياسي» الأميركي ضرورية لتبيان إمكانية تكرار بكين لتجربة واشنطن في النمو وتحولها الى قوة العالم الاقتصادية الرئيسية أم لا. فالديون الأميركية ظلت عند مستويات تقارب 40-50 منذ عام 1929 حتى أواخر الثمانينات، قبل أن ترتفع بنسب ضئيلة بعد ذلك، (باستثناء أعوام الحرب العالمية الثانية التي شهدت زيادة كبيرة في الدين العام)، غير أن مستوى الديون ارتفع كثيرًا منذ الأزمة المالية العالمية، حيث ستصل إلى %108 العام المقبل مع تخفيضات «ترامب» الضريبية. الأزمة الحقيقية وتشبه الحالة الصينية نظيرتها الأميركية في حساب الديون، فالديون الصينية لم ترتفع إلا مع «الظروف الاستثنائية» المتعلقة بالأزمة المالية العالمية، مثلما لم تشهد الديون الأميركية زيادات قياسية لا سيما في سنوات النمو (قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة بالأساس). غير أن الأزمة الحقيقية تبقى في ما كشفته «فوربس» حول معاناة «الحكومات المحلية» في الصين من ديون تبلغ 6 تريليونات دولار تقريبًا، وتبقى تلك الديون بلا ظهير حقيقي من الموارد، في ظل حصول الحكومات المحلية على مواردها من الحكومة الصينية المركزية، بما يجعل تلك الديون عبئًا على الأخيرة في واقع الأمر، ويصل بنسبة الدين إلى قرابة %90. وعلى جانب مقابل، ترى «فوربس» أن هناك «مبالغة» في تقدير التراجع الاقتصادي الصيني، لا سيما أزمة الديون وتأثيرها السلبي على الاقتصاد لأكثر من سبب. والبورصة الصينية تراجعت بنسبة %20 منذ بداية العام بالفعل، غير أن هذا لا يعني الكثير لأنها لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد الحقيقي كما هو الحال في الولايات المتحدة مثلا، كما أن %80 من المتعاملين أشخاص وشركات صغيرة، خلافًا للولايات المتحدة حيث %90 من المتعاملين شركات كبيرة، بما يجعل الهيئات الأصغر أسرع تأثرًا بأي تغييرات سياسية أو اقتصادية. والتراجع في قيمة اليوان بنسبة %8 بين شهري أبريل وأغسطس الماضيين لم يكن بسبب ضعف العملة نفسها، بل بسبب عودة الدولار لاكتساب بعض القيمة التي فقدها أمام العملة الصينية خلال أشهر سابقة، وبالتالي ليس مؤشرًا على تراجع اقتصادي. «ديون مختلفة» والسبب الأهم أن أزمة الديون الصينية ليست بالشدة التي يصورها البعض، فعلى الرغم من معاناة الشركات الصينية من ديون تصل إلى %160 من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون أن الكثير من تلك الشركات مملوكة للحكومة، وأنها مديونة لبنوك حكومية، أي أن الحكومة تقوم بتشغيل أموالها في واقع الأمر من خلال «ديون صورية». وترى «فوربس» أنه على الرغم من وصول الديون الصينية إلى مستويات مقاربة للاقتصادات المتقدمة (%300 من الناتج القومي للاقتصاد ككل) فإن هيكل الديون الصينية أفضل، فالحكومية منها أقل من الخاصة، كما أن الديون الداخلية بين قطاعات الحكومة تشكل الأغلبية العظمى من تلك الديون. وترى وكالة ستاندرد آند بورز لتصنيف الديون أنه على الرغم من وصول الديون الصينية بشكل عام الى مستويات وصفتها بالمقلقة، فإن بقاء معدلات نمو الناتج المحلي الحقيقي عند %6.4 في عام 2017، والمعايير الصارمة التي تضعها المؤسسات النقدية الصينية للاقتراض تدفع الأسواق حتى الآن للتعامل باطمئنان نسبي مع الديون الصينية وتضخمها. أما شبكة بلومبيرغ فتعتبر أن هناك وجاهة للقلق من نمو الديون الصينية من %162 إلى %266 خلال السنوات العشر الأخيرة، في الوقت الذي يبدو الرأي القائل إن الأمر يعتبر «ضريبة» الجهود الصينية في السيطرة على الأزمة المالية العالمية ومساندة القوى الاقتصادية الناشئة منطقيا أيضا. «أزمة الديون الصينية لم تصل بعد إلى مرحلة اللاعودة، واقتصاد التنين قوي وقادر على التحمل.. ولكن شريطة تنبه بكين والعالم لذلك ومعالجة الأمر، وإلا ستصبح أزمة ستأكل الأخضر واليابس، عندما يتحول محرك النمو العالمي الأهم إلى مصدر للاضطرابات الاقتصادية».. هكذا لخصت «التايمز» أزمة الديون الصينية واحتمالات تأثيرها عالميا ومحليا لتبدو أقرب الى الصورة الحقيقية. (أرقام)
مشاركة :