محنة الفنون الإسلامية في الوعي المعاصر

  • 11/24/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا مفر من بذل الجهود اللازمة لإزالة الغموض الحاصل في الوعي الإسلامي المعاصر بشأن وظائف الفنون بعامة، وبشأن وظائف الفنون الجميلة ومقاصدِها بخاصة. هذا الغموض السلبي يمتد إلى علاقة مجمل الفنون بمجمل مقاصد الشريعةِ ومكارمها. ويتسبب هذا كلُّه في نمو الارتباك والحيرة والنفورِ، أحياناً، لدى جيل الشباب تجاه مسألة الفن ودوره في الحياة. وفي الوقت الذي يجد فيه هذا الجيلُ فرصةً كبيرة للانفتاح على مختلف ألوان الفنون والآداب العالمية والمحلية عبر الوسائط المتطورة لنقل المعلومات، ومن خلال السفر والسياحة والتجوال والمشاهدة المباشرة؛ فإنه يجدُ نفسَه في كثيرٍ من الأحوال، لا يمتلك رؤيةً واضحةً عن هذه الفنون ولا عن وظائفها، وتغيب عنه أهميتها في الحياة، ولا يستطيع التفريق بين النافع منها والضار، ولا يكاد يهتدي إلى معرفة موقعها على سُلم أولويات العيش وتكاليف الحياة اليومية؛ ناهيك عن علاقتها بقيم المرجعية الإسلامية وأصولها المعرفية، ومقاصدها العامة. وهذا هو لب إشكالية «الفنون الجميلة» تحديداً في الوعي الإسلامي الحديث والمعاصر. إن فتحَ باب النظر إلى مقاصد الشريعة من جهة كيفيات تحصيلها ابتداءً؛ يكشف- ضمن ما يكشف- عن أن «الفنون الجميلة» بكل صورها داخلةٌ بالضرورة في خدمة المقاصدِ العامة للشريعة؛ ليس باعتبارها وسيلة من وسائلها فحسب، وإنما باعتبارها تلبية لنداء الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها. فبصرُ الإنسان- مثلاً- إذا كان يقع على مشاهد جميلة ولو في الغالب، وسمعُه إذا كان يستمع إلى الطيب من القول ولو في الغالب، وشمُّه إذا كان يستنشق الروائح العطرة ولو في الغالب؛ فإنه سيتمتع- على الأرجح- بصحةٍ عقلية ونفسية وبدنية تجعله أكثر إيجابية، وأكثر إقبالاً على تعمير الحياة، وأعظم محبةً لغيره. وعمرانُ الحياة من أعظم التكاليف التي عهد بها الخالق سبحانه إلى الإنسان. أما إذا حدثَ العكسُ، ووقع بصره على مشاهد القبح والعنف، واستقبل سمعه ما يُسترذل من القولِ، وامتلأت أنفاسُه بالروائح الخبيثة؛ فإنه سيعاني غالباً من اعتلال في صحته العقلية، وسيَئِنُّ من اختلالٍ في صحته النفسية، ومن ضعف صحته البدنية، وقد ينزع إلى سلوك مسالك العنف، وسيعاني كثيرون من حوله معه، وبسببه، وكل هذه الأحوال والسلوكيات تكرُّ على أصول المقاصد بالتعطيل والِإهدار. ومن الملاحظ أن أغلبُ البحوث في الفنون الإسلامية لا تزالُ معنية بالجوانب التاريخية، أو الفقهية(الحلال والحرام)، أو المعمارية والهندسية، أو بعلاقات التأثير والتأثر بين الفنون الإسلامية وغيرها من فنون الحضارات الأخرى . أو هي معنية بمسائل وموضوعات مفردة مثل: الرسم، أو التصوير، أو التمثيل، أو الشعر، أو الموسيقى، أو الغناء، أو الزخرفة والزركشة ؛ رغم ضغوط الواقع التي تفترض بناء رؤية شاملة للفنون وجمالياتها في نور المرجعية الإسلامية، مع بيان علاقة كل هذه الفنون بالمقاصد العامة للشريعة، ومما يساعد على ذلك أن «مادة» النظرية العامة للفنون وجمالياتها وعلاقتها بمقاصد الشريعة مبثوثة، ومتناثرة في اجتهادات قدماء العلماء وبعض محدثيهم. قديمًا؛ تناولَ علماءُ المسلمين الفنونَ الجميلة ومسائلَها بقدر كبير من التوسع مع التعمق الفلسفي. فالمعتزلةُ مثلاً ربطوا الأخلاق والجمال بالعقل وبالشرع معاً؛ وذهبوا إلى أن ما حَسُنَ في نظر العقل يكون حسناً في نظر الشرع . وابن سينا (370- 428هـ /980- 1037م) رأى أن «جمالَ الشيء وبهاءه هو أن يكون على ما يجب له» ( كتاب النجاة لابن سينا: القاهرة: معهد المخطوطات العربية، 1938. ص79). وابن طفيل كتبَ رسالة في «فن الموسيقى»، واستعاد فيها النظرية الكلاسيكية حول التوافق بين أجناس الألحان والأمزجة البشرية؛ وأكد على الامتدادات التربوية والتطبيقية لهذا التوافق؛ بما في ذلك التطبيقات الطبية عنده (دومينيك أورفوا، تاريخ الفكر العربي الإسلامي. بيروت: المكتبة الشرقية، 2010م. ص540). أما الإمام الغزالي فقد سبق غيرَه من قدماء العلماء في التأصيل للنظريةِ العامة في الفن والفنون الجميلةِ الإسلامية، وتلاه آخرون منهم ابن قيم الجوزية. قسَّم الغزالي الجمالَ إلى «جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس، وجمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة» (إحياء علوم الدين. بيروت: دار المعرفة للنشر، ب.ت. ج/2/ص316.) ووظف الغزالي مفهوم الجمال في شرح أسرار المحبة الواجبة بين العبد وربه، وهي محبة مبنية على جِبلية الانجذاب البشري للجمال وفطريته، وهو كما قال:» حبُّ كلِّ جميلٍ لذاتِ الجمال، لا لحظ ينال من وراء إدراك الجمال؛ فذلك مجبول في الطباع». وشرح الغزالي كيف أن الموسيقى أو فن «السماع» «يثمر حالة في القلب تسمى الوجدَ، وأن الوجدَ يؤدي إلى تحريك الأطراف بحركات غير موزونة تسمى الاضطراب، أو بحركات موزونة تسمى التصفيقَ والرقص. وأكد على أن كل سماع يتم عن طريق قوةِ إدراك. وأن قوى الإدراك الحسية هي الحواس الخمس... وأما القوى الباطنة فمنها قوة العقل وقوة القلب، وكل قوة من هذه القوى تلذذ بموضوعها إذا استحق هذا الموضوع هذا الشعور باللذة». ويرجع الإمام كل ألوان الجمال والخير إلى الله تعالى المتصف بصفات الجمال والجلال فيقول: «لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسنات الله، وأثر من آثار كرمه، وغرفة من بحر جوده؛ سواء أُدرك هذا الجمال بالعقول، أو بالحواس. وجماله تعالى لا يتصور له ثان، لا في الإمكان ولا في الوجود». أما ابن قيم الجوزية فيبدأُ تأصيلَه للفنون والجماليات بحديث النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال» (صحيح مسلم، برقم91.) ويبين ابن القيم أن المطلوبَ هو جمال الظاهر والباطن. ثم يربط المعرفة بالجمال بالإيمان فيقول:»إن من أعز أنواعِ المعرفة؛ معرفة الرب سبحانه بالجمال». وخلاصة ما ذهب إليه هو: أن معرفةَ الله تكون ميسورة وقليلة الأعباء على من سلك طريق الذوق الجمالي، وأن عبادة الله تعالى يجب أن تكتسي لونا جمالياً شفافاً في العقيدة والشريعة والسلوك، وعلى المؤمن أن يكشف تجليات الجمال العقيدية والتشريعية والسلوكية ليستمتع بتطبيقها، وهو يعبد الله ويعرفه «بالجمال الذي هو وصفه، وبالجمال الذي هو شرعه ودينه». وبمثل تلك الرؤى الكلامية والفلسفية، ومن الاجتهادات الأصولية والمقاصدية للفنون والجماليات الكونية والنفسية؛ نستنتجُ أن قدماءَ علماء المسلمين قد أدركوا عمقَ علاقة الفنون بمقاصد الشريعة، ولكنهم لم يضعوها في صياغات مباشرة في علاقتها بكلياتها ومقاصدها العامة؛ وخاصة المقاصد والكليات الكبرى وهي: الدين، والعقل، والنفس، والعدالة، والحرية. ومقتضى كلامهم أن التأملَ في الجماليات مؤدٍ حتماً إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى، وإلى الاتزان العقلي، والهدوء النفسي؛ على مستوى الأفراد والجماعات. ومن ثم يسهم الاهتمام بتلك الجماليات وفنونها في تهيئة الذهن والقلب للإيمان بالله وتوحيده، وفي بناء العمران والتمدن، وفي تقوية ما نسميه «الصحة العامة»، و»السلم الأهلي» وفق مصطلحاتنا المعاصرة. أما حديثاً؛ فبحوثُ العلماءِ في موضوع الفنون الجميلة كثيرة جداً باللغة العربية، وبغيرها، ولكن قليل منها يبحث في علاقتها بمقاصد الشريعة؛ بل نادر جداً، ومنها مثلاً: كتاب الدكتور محمد عمارة «الإسلام والفنون الجميلة». وكتاب الرئيس على عزت بيغوفتش «الإسلام بين الشرق والغرب». يبيَّن الدكتور عمارة في كتابه أن الفنون يجب أن تكون جميلةً في ذاتها، وجميلةً في تأثيراتها ووظائفها ومقاصدها، وأن «فنون الدَّعة والبطالة والتواكل الاسترخاء والسطحية والتفاهة، غير فنون الحمية والعمل والعزم والانتماء والنهوض» (الإسلام والفنون الجميلة (القاهرة: دار الشروق، 1411هـ- 1991م ص7). وهو يرى أن «الفن الجميل ... مهارة يحكمها الذوق الجميل والمواهب الرشيدة؛... لإثارة المشاعر والعواطف». وذهب إلى أن خروجَ المهارات والفنون عن المقاصد الرشيدة يجردها من شرف الاتصاف بالجمالِ». ويرسم الرئيس علي عزت بيغوفتش، معالم نظرية إسلامية في الفنون من منظور إسلامي وبرؤية مقاصدية وفلسفية عميقة. وقد ذهب إلى أن وجودَ عالم آخر ونظام آخر إلى جانب عالم الطبيعة هو المصدر الأساسي لكل دين وفن؛ فإذا لم يكن هناك سوى عالم واحد لكان الفن مستحيلاً. وهو يعتبر العمل الفني من حيث هو إبداع «ثمرة للروح». وبينما يكون المطلوب في العلم أن يكون دقيقاً؛ فإن المطلوب في الفن هو أن يكون صادقاً؛ لأنه يعكس النظام الكوني دون أن يستفسر عنه (الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس ط2، 1997م. ص137- 176). إن ما ذهب إليه قدماءُ العلماء مثل الغزالي وابن قيم الجوزية، ومحدثوهم مثل الدكتور عمارة والرئيس بيغوفيتش بشأن التأصيل النظري والفلسفي للفنون والجماليات، لا يزال- رغم أهميته- غير كاف لصوغ «نظرية عامة» للفنون والجماليات وفق معايير المرجعية الإسلامية. وهنا يكمن أحد أهم وجوه إشكالية العلاقة بين الفن والفنون الجميلة وبين المقاصد العامة للشريعة: إنه النقص في الكتابة التأصيلية للنظرية العامة، والاكتفاء ببعض الجزئيات والاجتهاداتِ الفرعية، دون الوصول إلى رؤيةٍ معرفية شاملة تغطي الجوانب المختلفة للفنون والجماليات، وتجيب على الأسئلة الكبرى التي يثيرها موضوع الفن والجمال في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية. من المفيد في سياقِ السعي لحل هذه الإشكالية أن ننفتحَ على نظريات المدارس الغربية الحديثة في مجال الفنون الجميلة من حيث فلسفتها ووظائفها وأنماطها المختلفة؛ فهي بالغةُ الثراء، وفيها ما لا يجافي الرؤية الإسلامية ويتفق معها حيناً، كما أن فيها ما يجافيها ويتناقضُ معها أحياناً. ولا يصح أن نتجاهل «جماليات» الرؤية الغربية ومقاصدها بحجة أن لها قبائح؛ مثلما لا يصح أن نتهاون بشأن قبائحها بحجة أن لها جماليات. هناك من علماءِ الغربِ وفلاسفتِه المعاصرين من ذهب إلى أن الشيء الجميل هو ناتج الممارسة الاجتماعية التاريخية. ويعتبر الفيلسوف»هيغل» من أشهر القائلين بذلك. وهناك من لاحظ- بحق- أن ظاهرة الانسجام؛ وهي أساس الشعور بالجمال، وكذلك»عدم الانسجام»، الذي هو أساس الشعور بالقبح؛ ترجعان إلى تاريخ طويل في حياة الإنسان. ومنهم من ركز على علاقة الفن بالحياة، وبالدين، وبالعلم؛ وخلصوا إلى أن الفن أداة ربط اجتماعي، ووسيلة تطهير للنفس الإنسانية، وضمانة للتماسكِ والتجانس بين أبناء المجتمع الواحد. وهناك علماء وفلاسفة آخرون ربطوا بين الجمال والأخلاق ونبهوا إلى الدور التربوي لكليهما، بل وأقاموا علاقة وثيقة بين «الخير- والحق- والجمال». للفنون- إذن- مهماتٌ لا غنى عنها في كل حضارة من الحضارات؛ وإن اختلفت مرجعياتها الفلسفية ، أو تباينت مقاصدها وغاياتها النهائية. وتكاد أغلبُ الرؤى الحضارية والفلسفية تشترك في أن أهم مقاصد الفنون تتمثل في: تنمية العاطفة والوجدان، وتنمية مهارات الحواس وتدريبها على الإجادة والإتقان، وتعزيز الشعور بالهوية الذاتية، وحفز الإنسان على الإبداع والابتكار وتأكيدِ الذات، وضبط الانفعالات وترويض النزعات الجامحة ووضعها في حالة اتزان، وتقدير العمل اليدوي ومهارات الصناعة، وفتح المجال أمام الخيال واستثماره في خدمة الإنسان والعمران. ووحدها؛ تربط الفلسفة الإسلامية الجمال وفنونه بعقيدة توحيد الله سبحانه وتعالى؛ فهي في مجملها: تدل عليه، وتهدي إليه. والله أعلم.

مشاركة :