العمل المدني وصناعة الحاضر والمستقبل

  • 11/25/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

ثمة تصورٌ خاطئٌ لمفهوم المجتمع المدني ومؤسساته يجب تصحيحه في عالم العرب.. سيما وأن التصور المذكور لا يشيع فقط بين عامة الناس، وإنما أيضاً عند أغلب الحكومات العربية.. وُفق ذلك التصور، تلتصق السياسة حُكماً بأي نشاطٍ أهلي في مجال المجتمع المدني، بمعنى أن مثل هذا النشاط سيكون سياسياً أو ذا خلفيةٍ سياسية بالضرورة، وبالتالي فإنه سيكون مصدراً للفوضى بشكلٍ من الأشكال.. ونحن ما لم نتجاوز، شعوباً وحكومات، تلك الطريقة السلبية في التفكير، فسنحرم أنفسنا من رصيدٍ إيجابي كبير لا يزال مُغيّباً عن الإسهام في إكمال عمليات التنمية المطلوبة، خاصةً في مثل هذه الأوقات العصيبة التي تحتاج فيها الدول العربية إلى كل رصيدٍ ممكن في حسابات استقرارها الداخلي وعافيتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. من هنا، سيكون مفيداً حصول نقلةٍ في ذلك الفهم السائد حول دور مؤسسات المجتمع المدني، وحول علاقتها بالسلطة والدولة.. أحد أسس هذه النقلة هو إدراك التغيير الذي حصل في العقود القليلة الماضية في قدرة الدولة، أينما كانت، على القيام بجميع الوظائف التي كانت تريد أن تتصدى لها في السابق. نعرف أن الدول العربية، على وجه التحديد، كانت تحاول القيام بجميع الوظائف التي يجب أن تقوم بها جهةٌ ما في أي مجتمع، إذا كان ذلك المجتمع يريد أن يتطور، وإذا كان أفراده يريدون توفير الحدّ الأدنى المطلوب من الخدمات لهم. كان هذا يحصل، ولا يزال أحياناً، بحثاً عن حدٍ أدنى من المشروعية السياسية، في غياب أسباب أخرى لها. لكن الذي حصل هو أن حجم تلك الوظائف تضاعف مرّات بحكم التعقيد الذي صار يتزايد في نواحي الحياة ومناشطها، كما أن حجم الإمكانات المطلوب للقيام بتلك الوظائف على الوجه الكافي بات يتناقص مع استنزاف الموارد والثروات، ومع الأزمات الاقتصادية العالمية المتكررة، ومع تغيير بنية الاقتصاد العالمي، من انخفاض قيم السلع الأولية الموجودة في كثير من البلدان العربية إلى التحول نحو اقتصاد المعلومات الذي لا يزال يعاني من ضعفٍ شديد في تلك البلدان. هذا فضلاً عن مشكلات ذاتية تتعلق بهيكل الدولة وسياساتها فيما يتعلق بإدارة الموارد والتخطيط الإستراتيجي، إلى غير ذلك من العوامل. لهذا، أدركت العديد من الدول في العالم استحالة استمرار ذلك النمط من التخطيط السياسي، والذي يعتبر الدولة أو الحكومة المصدر الأول والوحيد لكل الوظائف والخدمات في المجتمع. وكان مُعبّراً أن يسود هذا التفكير حتى في البلاد ذات المقدرات والثروات الكبيرة، بل وفي البلاد التي كانت تُعتبر متقدمةً على غيرها في هذا المجال مثل بعض الدول الاسكندنافية. ومن هنا، استنكفت الدولة في كثيرٍ من بلاد العالم عن العناد والمكابرة، وعن الإصرار على قدرتها على القيام بجميع الوظائف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية، وبدأت تتحول إلى تبنّي سياساتٍ تُمكّن الدولة من التركيز على بعض الوظائف الأساسية، بحيث يمكن لها أن تعطي هذه الوظائف حقّها من التفكير والتخطيط والعناية. لكن الدولة في العالم العربي تبدو مصرةً على ادّعاء القدرة على القيام بجميع الوظائف، رغم كل الظروف والملابسات والصعوبات المعروفة، وبشكلٍ يعطي رسائل خاطئة لشرائح كبيرة في المجتمع توحي بإقصاء هذا المجتمع من ناحية، وقد ينتج عنها إبقاؤه في موقع المتلقّي الذي ينتظر تقديم جميع أنواع الخدمات إليه من ناحيةٍ ثانية. بل ويُفرز توقعات يُحتملُ أن تتصاعد لدرجةٍ يسهلُ فيها اختلاط الشكوى المشروعة بالتذمر. الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى مآزق لا يُحمدُ عقباها، ولا يجب أن تحصل أصلاً، لأن من الممكن تجاوزها ببعض الحكمة في التخطيط السياسي، من خلال توزيع الأدوار والوظائف بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني بشكلٍ مدروس ومُحدّد. هنا يأتي دور النشطاء والمثقفين في المجتمع، وذلك من خلال مبادرتهم لتوليد وابتكار تشكيلاتٍ اجتماعية وثقافية جديدة، لا تفتح فقط المجال أمام الإمكانات الهائلة الكامنة في المجتمع، بل وتُرسّخ أيضاً مفهوم الشراكة في صناعة المصير. وبشكلٍ لا يكون مجرد طريق لإعادة تحريك عمليات التنمية، وإنما أيضاً عاملاً يدعم الوحدة الوطنية، ويضفي صلابةً على الموقف السياسي العام للدولة. والمفروض فيما إذا تحقق هذا الطموح، أن تتعامل الدولة في البلاد العربية بمرونةٍ وتفهُّم، بل وتقديرٍلمثل هذه المبادرات.. وقبل هذا وبعده، أن يتم تأكيد مفهوم (الشراكة) المذكور بين الدولة والمجتمع.. ويبقى الضامن الأساسي لمثل هذه النقلة متمثلاً في منع كل عوائق التواصل الكثيف والمستمر والواضح والصريح بين الدولة وبين المثقفين والنُشطاء والنُّخب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. وقبل ذلك وبعده، في الاتفاق على رؤيةٍ مشتركة للظروف والمتغيرات الإقليمية والعالمية، لا يمكن لكل من يفهمها إلا أن يدرك حتمية التعاون والحوار والتكامل بين قوى المجتمع المختلفة التي تُبحر جميعاً على مركبٍ واحد، إما أن ينجو بالجميع، أو يغرق بهم ومعهم في لجّة الأمواج.

مشاركة :