توحد احتفالات لبنان بعيد الاستقلال أركان الدولة وتفرقهم الوطنية.سوريالي مسلسل احتفالات عيد الاستقلال: أركان الدولة مجتمعون لإحياء ذكرى استقلال مفقود، فيما هم مختلفون على حكومة معتقلة لدى الانتداب الجديد المتعدد الجنسيات. توحدهم الاحتفالات وتفرقهم الوطنية، تبهجهم التشريفات ويباعدهم الشرف، يكدسهم الوالي ويشتتهم الولاء. عادة، يشعر المواطنون بفرح وبفخر في عيد الاستقلال. وكانوا يسبقون الدولة ويزينون بيوتهم والشرفات. هذه المرة شعروا بالحزن والقهر فطالبوا بإلغاء الاحتفالات وتهكموا على المناسبة، الأمر الذي لم يقدموا عليه حتى في زمن الحرب والاحتلال المباشر. هذا الشعور - الموقف يتخطى الموالاة والمعارضة، والطوائف والأحزاب، والعهد والحكومة: هو موقف السخط الجامع. يوم لا يعود الشعب يميز بين الشكل والمضمون، بين مجد التاريخ وذل الحاضر، بين نضال الأجداد واستسلام الأحفاد، بين الجيش والميليشيا، بين المقاومة والمرتزقة، بين شهداء الوطن وشهداء الأوطان الأخرى، وبين الخير والشر، على السلطة حينئذ أن تخاف لأن المجتمع يكون دخل جاذبية الثورة. وكما الحكم تراكم تجربة، الثورة تراكم غضب. لكن الثورة في لبنان، مع الأسف، امرأة تحبل خارج رحمها فتضيع فرصة الإنجاب. الاستقلال للمستقلين، للمؤمنين بكيان لبنان والملتزمين بعد بالبيان الاستقلالي الذي ألقاه رياض الصلح في 07 تشرين الأول 1943. الاستقلال للمناضلين والمقاومين وشهداء القضية اللبنانية. أما الآخرون، فليحتفلوا بأعياد الدول التي يرتبطون بها ويتقيدون بأوامرها. لا يحق أن تحتفل طبقة سياسية بالاستقلال وقد أضاعته وبعثرته وبددته وقايضت عليه ونقلت لبنان من انتداب حضاري إلى احتلالات همجية، ومن دولة نهضوية إلى دولة متهاوية. لا يحق أن تحتفل طبقة سياسية بالاستقلال وقد أشركت بالولاء للبنان، وعجزت قصدا عن تأليف حكومة. نحن تحررنا جغرافيا ولم نستقل وطنيا. الوقاحة، أن هؤلاء السياسيين الذين أفلسوا البلد، يتطاولون على "صلاحيات" رئيس الجمهورية، ويدعون أبوة اللبنانيين أيضا. هل نسوا أن حرب لبنان سببها "الأبوات"؟ عدا أن تعدد الآباء ليس مستحبا، اللبنانيون لا يفتشون عن آباء، فلكل واحد منهم أب على الأقل مبدئيا، بل يبحثون عن مسؤولين وحكام يديرون الدولة لكي تصبح هي أم الجميع. إذا سلمنا جدلا أن المسؤولين هم آباؤنا، أهكذا يعتني الآباء بأبنائهم، فلا يرأفون بحالهم ولا يعالجون مشاكلهم ولا يخففون معاناتهم ولا يحصنونهم بحكومة؟ نحن يتامى حكومة مغيبة ودولة نأت بنفسها عن الشعب. إذا كانت عقدة تأليف الحكومة خارجية فهذه خيانة وطنية، وإذا كانت العقدة داخلية فتلك جريمة وطنية. الفارق بين أزماتنا الحكومية في لبنان والأزمات الحكومية في دول العالم هو أن ما يؤخر أحيانا تأليف الحكومات هناك هو التنافس الديمقراطي على برنامج الحكم، أي أن أسباب أزماتهم داخلية ووطنية. أما ما يؤخر دائما تأليف الحكومات هنا فهو الصراع اللاديمقراطي على الحكم والكيان والدولة والهوية الوطنية، أي أن أسباب أزماتنا خارجية وغير وطنية. حتى الاختلاف الداخلي على الحصص هو، في العمق، اختلاف على حصص الدول الغريبة في الحكومة اللبنانية، وليس على حصص الطوائف والكتل النيابية. في كل الأحوال، الوضع يستدعي تحرك رئيس الجمهورية انطلاقا من قسمه الدستوري ولا ينازعه عليه أحد، وليس فقط استنادا إلى صلاحياته المحدودة ولا تزال موضع حسد. ما يشجعني على التوجه إليه هو خطابه إلى اللبنانيين في عيد الاستقلال. إن أحسنت الإصغاء، وجدت في الخطاب خيارات متمايزة عن السابق، ورغبة في اعتماد نهج جديد في مقاربة القضايا، وعزما على لملمة القرار الوطني، وإرادة في التصدي لما أعاق مسيرة العهد. وكاد أن يقول بتصرف: "من بيت تحالفاتي ضربت". أعرف أن ليست هي الرغبة ما تنقص الرئيس. فأي رئيس لا يحب أن ينجح؟ لكن، لكي تكون السنوات الأربع الباقية من العهد مختلفة عن السنتين الماضيتين، يفترض بالرئيس أن يبادر إلى التغيير من "فوق" (من خلال الدولة) لأن التغيير من "تحت" (من خلال الشعب) عصي. فأسوأ من الطبقة السياسية في لبنان، هو هذا الشعب المتخاذل. لو تعرض شعب آخر لما يتعرض له شعب لبنان منذ سنوات، لانتفض وثار وأسقط الحكام والحكومات وكل ما تيسر. لا يذكر تاريخ لبنان الحديث ثورة اجتماعية وإصلاحية ذاتية. نحن شعب مقاوم لا شعب ثائر. حتى أن المقاومات اللبنانية، سابقا، ما حصلت نتيجة فورة شعبية بل تلبية نداء قيادي. هكذا جرى في معركة الاستقلال، في مقاومة الوحدة العربية سنة 1958، في مقاومة التوطين الفلسطيني سنة 1975، في مقاومة الاحتلال السوري سنة 1978، وفي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. الاستثناء الوحيد كان "ثورة الأرز" سنة 2005، لكنها دامت ساعات قليلة لتنكفئ أمام حسابات السياسيين الصغيرة. حبذا لو ينتزع فخامة الرئيس كل الشعارات من كل الفئات السياسية والطائفية، ويحولها فعلا تغييريا حقيقيا وحياديا يسمو فوق الجميع، فيلتقي مع معاناة الناس. هذا القرار لا يتطلب صلاحيات بل إرادة، ولا يتطلب حكومة بل شعبا. حينئذ، نفتخر السنة المقبلة بإحياء عيد الاستقلال مدغما بعيد السيادة ومكللا بعيد التغيير. وأصلا، لا يستطيع أي رئيس، قويا كان أم ضعيفا، أن يحكم لبنان بعد اليوم من دون إحداث تغيير بنيوي. أملي أن يكون الرئيس عون قادرا بعد على إجراء هذه العملية الإنقاذية. ورجائي أن يحدث ذلك سريعا لئلا تأتينا تغييرات من نوع آخر: تغييرات تنال من الشرعية والشعب والكيان في آن معا.
مشاركة :