رغم تغير الزمن وتنامي أعداد النساء المتعلمات والعاملات الناجحات، إلا أننا لا نعدم من حين لآخر أن يظهر من لا يزال يجري في دمه بقايا من موروثات عصر الانحطاط الذي خيم فيه الجهل والتخلف على المسلمين، فيأخذ ينادي بعزل المرأة وإجلائها بعيدا عن الحياة العامة، في تجاهل كلي لما كانت عليه سيرة المرأة المسلمة في القرون الأولى، عندما كان نور المعرفة يسطع على العالم الإسلامي. إلا أنه مهما قال المثبطون عن المرأة، فإنها ستظل تسير قدما رافعة الرأس ثابتة الخطو، فهي تعرف أنها على حق، وأن إقدامها على خوض غمار الحياة ومشاركتها الحية فيها هو حق. من نافلة القول، إنه ليس ثمة سبب يدعو إلى عزل المرأة وإقصائها، وما تفعله النساء المعاصرات في يومنا هذا ما هو إلا إكمال لما بدأته جداتهن من قبل، وبإمكان أي قارئ عاقل أن يتتبع عبر كتب التراث الأدبية والتاريخية أخبار النساء المسلمات العربيات، ليرى سعة مشاركاتهن في الحياة العامة في خدمة الدين والعلم والثقافة والمجتمع. من نماذج تلك المشاركات ما أسهمت فيه المرأة الأندلسية في القرن الثالث الهجري من خدمة كبيرة للقرآن الكريم، وذلك بضلوعها في نسخه وزخرفة صفحاته. فحسب ما نقلته بعض كتب تاريخ الأندلس، كان في قرطبة مائة وسبعون امرأة يعملن في نسخ القرآن الكريم بالخط الكوفي وزخرفة المصاحف بالنقوش الذهبية الأنيقة. ومما يروى أن الخليفة الأندلسي الحكم المستنصر كان معنيا بالمكتبات ونسخ الكتب، ولديه مكتبة تضم أقساما متنوعة، منها قسم خاص بالنسخ كانت ترأسه امرأة اسمها (لبنى)، وكان يعمل فيه خطاطون مهرة من النساء والرجال. من أشهر الناسخات للقرآن الكريم امرأة اسمها (قلم)، وتوصف بجمال الخط إلى جانب ثقافتها الواسعة، حيث كانت أديبة وراوية للشعر والأخبار. وعائشة بنت أحمد القرطبية التي يقال إنها كانت لها خزانة علم كبيرة، فقد اشتهرت بنسخ المصاحف والدفاتر والكتب. ومثلها فاطمة بنت زكريا، وهي خطاطة ماهرة نسخت مئات من الكتب الطوال. والبهاء التي كانت تنسخ المصاحف وتوقفها أو تحبسها على المساجد. ومزنة، وهي كاتبة الخليفة عبدالرحمن الناصر، وتوصف بأنها من (أخط النساء) في عصرها. إذا تذكرنا أنه في تلك الفترة التاريخية لم يعرف الناس المطبعة بعد، ولم تظهر عندهم آلات التصوير، أدركنا مدى أهمية ما كانت تقوم به أولئك النساء من عمل، فقد كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على نسخة من القرآن الكريم أو أي كتاب آخر، هي أن ينسخ بخط اليد، فكم من الوقت والجهد الذي يبذل من أجل ذلك، وكم هي عظيمة تلك الخدمة التي قدمتها أولئك النساء للحفاظ على كتاب الله وتيسير وصوله لأيدي العابدين. لكن ذاكرة النكران أبت أن تنصفهن فتخلد ذكرهن وتبرز عملهن، فظلت أسماؤهن مطمورة بين ثنايا الإهمال لا يشير إليها أحد.
مشاركة :