احتجاجات “السترات الصفراء” في فرنسا التي انطلقت 17 نوفمبر الحالي، وطالت مدنا فرنسية عديدة، من بينها العاصمة باريس حيث وصلت إلى قلب المدينة ورمزها، جادة الشانزليزيه، اعتبرت صيحة فزع فرنسية ضد السياسات الفرنسية على المستوى الاقتصادي بشكل خاص. الاحتجاجات التي انطلقت رفضا لعزم الحكومة الفرنسية زيادة الرسوم على المحروقات، تطورت في شعاراتها إلى التنديد بالنظام الضريبي الفرنسي والتنديد بتراجع المقدرة الشرائية، وصولا إلى المطالبة برحيل ماكرون، ووصلت شظاياها إلى مدن بلجيكية. تواصل حركة الاحتجاجات طيلة أكثر من أسبوعين رغم افتقادها للقيادة السياسية الواضحة، ورفع منسوب شعاراتها ومطالبها، هل تتيح القول إن الدوافع العميقة تتجاوز مجرد رفض شعبي لقرار حكومي ذي طابع اقتصادي؟ وهل يجوز القول إنها تعبير ميداني عن التبرم من نتائج السياسات الليبرالية الأوروبية التي تعيش أزمة منذ عقود؟ ألا يعد الأمر في جوهره دعوة إلى الأنظمة الرأسمالية لمراجعة خياراتها في اتجاه اعتماد توجهات اجتماعية تقلل من التوحش الليبرالي؟ مفارقات كثيرة تسم احتجاجات السترات الصفراء. فقد اندلعت بعد عام واحد من وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى سدة الرئاسة، في وضع فرنسي موسوم بالركود الاقتصادي، وهو وضع لم يترتب فقط على فترة حكم ماكرون، لكن ما أفصحت عنه توجهاته في الداخل والخارج، أتاحت للكثيرين اعتبار أنه لن يقدم ما يفيد توقه إلى تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. المثير في الاحتجاجات الفرنسية أنها كشفت تردد ماكرون وإدارته بين الانشغال بالهموم الخارجية، الأوروبية والعالمية، وبين الالتفات إلى الشأن الداخلي، وبهذا المعنى فإن الاحتجاجات الأخيرة تستهدف سحب ماكرون إلى غبار الميادين المحلية، وربما تفرض عليه أن يؤجل معاركه الخارجية، من قبيل سعيه لإعادة رسم أوروبا جديدة واشتغاله على ترميم تصدعات الناتو والحروب العسكرية والتجارية ومعالجة استتباعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقضايا المناخ ومحاربة الإرهاب وغيرها. ملفات كثيرة تنتظر ماكرون في الداخل، وأول الملفات التي وضعتها الاحتجاجات الفرنسية على طاولة الرئيس الشاب هي مشاكل اللاجئين والصحة والبطالة والهجرة، وأساسا معضلة تراجع المقدرة الشرائية، بكل ما تعنيه من تباين بين النظر الفرنسي الرسمي وبين مضامين الشعارات الغاضبة التي تنادي بتحسين المعيشة. على أن افتقاد احتجاجات السترات الصفراء للقيادات السياسية الواضحة وخلوها من البرامج المحددة، لم يحولا دون مساندة العديد من الأحزاب اليمينية واليسارية -للمفارقة- للاحتجاجات. قالت لورانس سارييه المتحدثة باسم حزب الجمهوريين “يقول الفرنسيون سيدي الرئيس نعجز عن تأمين معيشتنا ويجيبهم الرئيس سنقوم بإنشاء مجلس أعلى للمناخ. هل ترون كم هو بعيد عن الواقع؟”. المسافة الفاصلة بين إدارة ماكرون للواقع الفرنسي، وبين ما ترنو إليه المظاهرات الغاضبة هي بالضبط ما أسمته الاحتجاجات بـ”إهمال الفقراء”، وهي أيضا ما دفع الحشود الكثيرة، التي يتفاوت منسوب خروجها إلى الشوارع من يوم إلى آخر، إلى التعبير عن غضب طبقة وسطى أو فقيرة تجاه القرارات الأخيرة التي عُدت خيانة للوعود الانتخابية وطعنة سددت في ظهر الفقراء الفرنسيين. لن يكون مفيدا في اللحظة الفرنسية الراهنة مقارنة الأحداث الأخيرة بمثيلاتها في مايو 1968، تلك التي أطاحت بالجنرال شارل ديغول، ولن يكون منصفا تشبيه احتجاجات الشوارع الفرنسية بالربيع العربي تبعا لاختلافات السياقات والأوضاع، ولن يكون مجديا أيضا اعتبار الاحتجاجات الأخيرة صرخة اشتراكية ضد النزوع الرأسمالي الذي بلغ أقصاه، ومع ذلك فإن كل تلك الإسقاطات السالفة تحضر في الأذهان مع وجوب احترام فوارق السياقات، لكن احتجاجات السترات الصفراء، المنطلقة من واقع فرنسي محدد وراهن، ستكون لها مآلاتها السياسية والاقتصادية القريبة. على المستوى السياسي ضربت هذه الاحتجاجات شعبية ماكرون في مقتل، وعلى المستوى الاجتماعي لن تحول التصريحات الرسمية المنددة بالخروج عن السلمية، دون وجوب الانكباب على معالجة أسباب الأزمة وهي أسباب تتجاوز مجرد الزيادة في الرسوم على المحروقات، بل تتجاوزها إلى مراجعة الخيارات الاقتصادية الفرنسية برمتها، وضرورة العودة إلى رأسمالية اجتماعية توفق بين قواعد السوق وبين احترام أوضاع الطبقات الاجتماعية المتضررة من توحش رأسمالي ازداد نسقه في أوروبا وفي العالم.
مشاركة :