هناك في السينما الأميركية، ثم في العديد من السينمات العالمية التي سارت على خطاها، نوع سينمائي تمكن ترجمة اسمه الى العربية بـ «فيلم الطريق» حتى وإن كان هذا الاسم لا يعرّفه إلا برّانياً. المهم أن غالبية حوادث أي فيلم تنتمي الى هذا النوع تدور، بالتالي، على الطرقات ودائماً في نوع من رحلة تعليمية ربما كانت وصلت الى ذروتها الكبرى، في الأدب لا في السينما، من خلال رواية جاك كيرواك الفصيحة جداً في هذا المجال، حتى منذ عنوانها: «على الطريق». ونعرف أن هذا النوع كان جذاباً في شكل عام وإن لم يصل أي من أفلامه الى أن يكون تحفاً سينمائية من طراز رفيع جداً. لكن هذا لا يمنع من القول إن الإنتاجات الكبيرة في هذا السياق، عرفت دائماً كيف تكون تجديدية، بل حتى يحدث في بعض الأحيان لمنتوج منها أن يكون فاتحة لزمن أو تيار، أو حتى تثويراً للسينما التي أُنتج ضمن إطارها. وإذ نقول هذا نفكر بأفلام مثل «إيزي رايدر» لبوب ريفلسون، و«بوني وكلايد» آرثر بن، و«قتلة بالسليقة» لأوليفر ستون، وصولاً الى أكثر من فيلم لدافيد لينش ومن بينها «قاسي القلب» الذي حققه في العام 1990 لينال عليه جائزة «السعفة الذهبية» في دورة مهرجان كان لذلك العام حيث كان برناردو برتولوتشي رئيساً للجنة التحكيم ودافع عن الفيلم بشدة. > أما الأمر الذي قد لا يفوتنا أن نلاحظه مشتركاً بين عدد لا بأس به من أقوى أفلام هذا النوع، وسنرصده بشكل خاص بعد قليل، في «قاسي القلب»، فهو أن الشخصيات الرئيسية، وهي غالباً ما تكون شخصيتين لعاشقين يقومان برحلتهما معاً، هربا من شيء، أو تطلعا للوصول الى شيء، تكون شخصيات إجرامية سواء تعاطف الجمهور معها أو لم يتعاطف، وسواء أكانت شخصيات بطولية أو أقل بطوليةً. وإذ نشير الى هذا هنا، نفكر هذه المرة، إضافة الى الأفلام التي ذكرناها أعلاه، بأعمال قوية أخرى منها «السلاح المجنون» لجوزف لويس، و«بادلاندز» لتيرنس مالك، وحتى «عشاق الليل» لنيكولاس راي. > إذاً على الأقل في هذه الأفلام، كما في «قتلة بالسليقة» و «إيزي رايدر» و«بوني وكلايد» على الأقل، لدينا نوع من التجاور بين «الرحلة» والجريمة، إنما من دون أن يكون محدداً سلفاً أي الاثنتين تؤدي الى الثانية، حتى وإن كان ما يحدث في أغلب الأحيان هو أن تماهي غالبية المتفرجين يميل في اتجاه المجرمين الذين يحدث في أحيان كثيرة أن يُقدّموا الينا ضحايا لأوضاع اجتماعية واقتصادية أو لظلم ما، حولهم أشراراً. وفي هذا السياق، قد يكون في وسعنا أن نقول إن «قاسي القلب» لدافيد لينش، يكاد وحده يكون جامعاً لكل التيمات التي يمكن استخلاصها من أي تحليل معمق يطاول أفلام النوع، مع فارق أساسي يكمن في أنه لئن بدت الأفلام الأخرى في معظمها، وعظية تتطلع الى نصح أخلاقي ما- خوفاً من الرقابة؟ أم عن قناعة؟ لسنا ندري تماماً- وذلك من طريق فرض نهاية منطقية ينال فيها المجرم عقابه في نهاية المطاف حتى ولو استثار ذلك حزن بل سخط المتفرجين المتعاطفين، فإن نهاية «قاسي القلب» السعيدة والشديدة الرومانطيقية تبدو مفاجئة وخارج السياق. وربما يعود هذا الى أن العاشقين القائمين برحلة الطريق ليسا مجرمين أصلاً، حتى وإن كان سيلور (نيكولاس كايج، في واحد من أجمل أدواره) خريج سجون، بل حتى سيتضح أنه مسؤول عن مقتل والد لولا حرقاً في زمن سابق. والحال أن لولا حين سيصارحها بهذا ستغفر له بسرعة ما سيريح المتفرج بالطبع! > أما الحكاية فتدور من حول شعلة الغرام التي تتقد بين سيلور ولولا، والتي سوف تبقى مشتعلة على رغم فترة السجن الأولى التي يمضيها وتعتقد أمها خلالها أن لولا شفيت من ذلك الحب. لكن الذي سيحدث هنا هو أن سيلور سيخرج من السجن فيجد لولا تنتظره أمام الباب بسيارتها ومعها هدية له: سترة جلد الثعبان التي يفرح بها قدر فرحه بلولا صارخاً إنها تمثل فرادته. والحقيقة أن سيلور فريد ووحيد وهو ربما كان الأكثر رومانطيقية بين العشاق الذين يملأون الشاشات، ولا أدل على ذلك من رفضه أن يغني للولا حتى في أجمل لحظات غرامهما، أغنية إلفيس بريسلي الأكثر حناناً وشاعرية «أحبيني بكل حنان» مخبراً إياها انه لن ينشد هذه الأغنية إلا لزوجته التي، سنفهم أنها ليست موجودة بعد. ومن هنا الرومانطيقية المطلقة لمشهد النهاية، حيت بعد كل شيء يقفز سيلور فوق عشرات السيارات المتوقفة ليصل الى لولا في سيارتها ويعانقها مغنيا لها أخيراً «أحبيني بكل حنان». فهو هذه المرة يحدد أنها زوجته لأن الساحرة البيضاء كانت قالت له ذلك. ثم أليس الطفل الجالس الى جانب أمه لولا في سيارتها يراقب عناقهما مبتسماً سعيداً، طفله هو أيضاً؟ > فالواقع أنه بين المشاهد الأولى التي انطلق فيها العاشقان بالسيارة في الرحلة التي ستقودهما الى كاليفورنيا، ومشهد النهاية الحادث بعد دزينة من السنوات، ستحدث أمور كثيرة كلها ضدهما: أم لولا التي تجن لقفدان ابنتها المنضمة الى هذا المجرم - هي تحقد عليه في الحقيقة لأنه رفض إغواءها له قبل ذلك- فترسل القتلة المأجورين في اعقاب الفارَّيْن لتخليص ابنتها؛ والمجرمون والحثالات التي لا يتوقف العاشقين عن الاصطدام بها في طريقهما وصولاً الى الأشباح الليلية، مروراً بواحد من اللصوص يغري سيلور بمشاركته سرقة ستفشل ما يرسل سيلور الى السجن هذه المرة من جديد. > إذاً هذا كله هو العالم الذي يلتقيه سيلور ولولا في رحلتهما التي تقودهما من ولاية الى أخرى، حيث تُستعرض أمام أنظارنا، وكما يحدث دائماً في هذا النوع من الأفلام، أنماط عديدة من البشر، وربما يصح أن نقول: أميركا كلها. ولكن ما هذه الأميركا التي لا يلتقي العاشقان بغيرها؟ ما هذه الأميركا التي لا يتوقف دافيد لينش عن تصويرها لنا في أفلامه؟ هل تراه يريد أن يقول لنا على طريقته المواربة، نهاية ما للحلم الأميركي؟ ربما، ولكن إزاء هذا، ما الذي ستعنيه النهاية السعيدة التي جعلها للعاشقين بعد كل رحلتهما التعيسة، الرحلة التي لم ينالا خلالها قسطهما من السعادة والحب إلا حين يكونان في عزلتهما؟ وكأننا هنا أمام ترجمة بصرية لمقولة «الجحيم هو الآخرون». الآخرون حيث الجنون والقتل والحوادث الليلية القاتلة المسفرة عن تكاثر الموتى- الأحياء، والتفكك العائلي، ثم زحام السير في طرق باتت صحراء ممكننة تذكر مراراً في الفيلم لتتجسد في النهاية مئات من السيارات المتوقفة التي يتعين على سيلور القفز فوقها وعبرها كي يصل الى حبيبته/ سعادته في نهاية الأمر ويغني لامرأته «أحبيني بكل حنان». > إذاً كانت النزعة الرومانطيقية قد تلازمت دائماً مع النزعة الفردية، سنجدنا هنا، في «قاسي القلب» أمام واحد من أكثر الأفلام فردية ورومانطيقية في تاريخ السينما. وبالتالي، فإن «الرحلة» التي يتوجب على العاشقين أن يقطعاها في فيلم الطريق هذا، وعلى عكس ما تكون عليه الأمور في معظم أفلام النوع، على النمط الأميركي، حين تكون رحلة الطريق نوعاً من الهبوط الى الجحيم، ستبدو لنا رحلة الطريق هنا أشبه بصعود الى الفردوس، ذلك الفردوس الذي هو بالنسبة الى سيلور، عائلة وطفل وحب وغناء وحنان. ويقينا أن في هذا، وبالتحديد، يختلف فيلم دافيد لينش هذا ليس فقط عن الغالبية العظمى من أفلام النوع، بل حتى على أفلامه هو بدءاً من مجموعة الأفلام القصيرة اللافتة التي سبقت روائيّه الطويل الأول «إيرازرهيد» (1977)، وصولاً الى مسلسله التلفزيوني المدهش الذي بدأه أوائل التسعينات ولا يزال يضيف إليه حتى الآن، «توين بيك».
مشاركة :