زيارة البارزاني لبغداد لن تعيد للتحالف الشيعي الكردي الحياةهناك عمل سياسي كثير يعقب زيارة البارزاني لبغداد يتجاوز محيط العراق لتتضح صورة العلاقة بين بغداد وأربيل، فالترميم لا يحيي التحالف الكردي الشيعي الذي مات ودفن، ولا قدرة للبارزاني على أن يضيع وقته في إعادته للحياة.البارزاني ليس سهلا وليس مجرد رئيس حزب كرديزيارة رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البارزاني، إلى بغداد ليست زيارة مرتجلة أو استسلامية أو تعبّر عن صداقة حميمة لرئيس الوزراء الجديد، لكنها مدروسة وذات أبعاد تتجاوز ما أحيطت به من تعليقات وتوصيفات إعلامية ذات دوافع انفعالية، سواء من قبل بعض الأوساط الشيعية أو الكردية أو التركمانية، أوفي النقد الساخر من قبل برلمانيين شيعة حول طريقة الحفاوة بالاستقبال من قبل رئيس البرلمان العراقي وهادي العامري ومدّ البساط الأحمر له عند أبواب طائرته الخاصة.والملفت مغادرة رئيس الجمهورية برهم صالح لبغداد في سفرة لإيطاليا خلال زيارة مسعود البارزاني لكي لا يحصل الإحراج لهما وهما متخاصمان. صحيح أن مسعود يسعى إلى تجاوز الخطأ القاتل في توقيت الدعوة إلى الاستقلال عن العراق، لكن لا أحد يتوقع لبارزاني أن يركع في بغداد سوى خصومه، وهو يحاول من خلال زيارته تلمس بعض الضوء في الأفق المظلم المحيط بعلاقة بغداد بأربيل دون تنازلات عن ثوابته التي يجدها استحقاقية وفق الدستور كمسألة كركوك وتوزيع الثروة النفطية والميزانية العامة، وهو يعتبر نفسه أحد القادة القوميين التاريخيين للأكراد، وليس كغيره من السياسيين الأكراد الذين لا يترددون في الانتقال من كتلة سياسية إلى أخرى تلبية لطموحات ذاتية في الوصول إلى أعلى المناصب.لكن مسعود البارزاني وجد أن لا مفر أمامه سوى الحوار مع بغداد، خصوصا أنه يجد في وصول عادل عبدالمهدي إلى رئاسة الوزارة وهو رفيق النضال القديم أكثر من غيره من السياسيين الشيعة ألفة، ويستذكر معه كيف كان عبدالمهدي قبل عام 2003 قائدا في صفوف المجلس الإسلامي الشيعي بقيادة الراحل باقر الحكيم.ورغم النكسة السياسية التي واجهت البارزاني إلا أنه مصّر على ثوابت مطالباته بتفعيل المادة الدستورية 140 الخاصة بكركوك مركز الصراع وبرميل النفط الجاهز للتفجير في كل لحظة، وقد اشتعل في 16 أكتوبر من العام الماضي مع دخول القوات العراقية، وفي مقدمتها الحشد الشعبي، إلى المنطقة رغم مرونة زعيم منظمة بدر هادي العامري والذي هو بذات الوقت رئيس الائتلاف الشيعي الموالي لطهران التي قرنت غضبها من خطوة مسعود القومية بإيفادها للجنرال قاسم سليماني الذي هدد الأكراد من مدينة السليمانية عشية الاستفتاء بأنهم سيعزلون في الجبل ولن يحققوا حلمهم بالدولة.مرّ أكثر من عام على طرد القوات الكردية (البيشمركة) من كركوك وطوزخراماتو وتطبيع الأوضاع السياسية بما أعاد الاعتبار للتركمان الشيعة وغير الشيعة والعرب، ولهذا فهناك قلق من القيادات التركمانية الشيعية من احتمالات عقد صفقات إعادة كركوك إلى ما كانت عليه قبل 16 أكتوبر 2017 وهي واحد من مكونات الملف المعقد ما بين أربيل وبغداد.مسعود البارزاني في زيارته لبغداد لا يتوقع إجابات سريعة ولم يقدم مطالبه الآن، لقد أراد تمهيد الأجواء، وهو يعلم أن القيادات الشيعية ثقيلة الأوزان لا تتعامل مع مثل هذا الملف دون استشارة طهران التي تحتاج البارزاني اليوم وهي تواجه مخاطر العقوبات الأميركية، وهناك الحدود الممتدة الطويلة بين إيران وإقليم كردستان وهي ذات أهمية تجارية كبيرة قادرة على تحقيق التفاف كبير ضد العقوبات الأميركية، وهي واحدة من فرص مسعود البارزاني، ولم يكن عادل عبدالمهدي مغاليا حين وصفه بأنه “مهندس العلاقات داخل العراق وخارجه وفي العالم”. البارزاني يعتقد بأن الأكراد لن يقبلوا التحول إلى تابعين يتلقون العطايا والهبات بتعال، حتى وإن أصبحوا الآن في أقسى أيامهم، واعتقادهم بأنهم صناع العهد السياسي الجديد إلى جانب القيادات الشيعية، فلا بد من تعديل الاتجاه الذي يضعهم في الموقع السابق الذي كانوا عليه في العام 2003هل سيتحول القائد الكردي البارزاني إلى أردوغان ثان في تلويحه لواشنطن التي خذلته سياسيا بالاستفتاء والاستدارة نحو طهران عدوة طموحه القومي، أم أن مسعود سيحيي علاقة والده الراحل، مصطفى البارزاني، مع موسكو حين لجأ إليها بعد فشل جمهورية مهاباد في العام 1946، ويتوجه إليها اليوم في أكثر الظروف الإقليمية حساسية.لكن الأكثر أهمية من مختلف الجزئيات الخاصة بالمشاكل بين أربيل وبغداد، هو أن مسعود مقتنع بأنه لم يعد بالإمكان إحياء التحالف الاستراتيجي الشيعي الكردي الذي دفنه استفتاء الاستقلال وقبله مجمل المشاكل التي أعاقت تطبيقات الدستور الذي صمم أصلا لتلك الشراكة الكردية الشيعية، وليس لبناء دولة عراقية مدنية تضع مصالح المواطنين في مقدمة اهتماماتها.وحين تصاعدت المشاكل أخذت القيادات الرئيسية لحزب البارزاني تعلن أن أزمة الحكم، من وجهة نظرها، تكمن في استفراد الإسلام السياسي الشيعي بالسلطة، ولم يعد للسياسيين المحسوبين على السنة أية أهمية لدى مسعود في برنامجه السياسي، بعد أن وجد لديهم قدرات هائلة على بيع الأصحاب والأصدقاء لقاء مصالحهم. وحين وصلوا وانضموا إلى مركز القرار الشيعي لم يعودوا بحاجة إلى البارزاني الذي احتضنهم بالأمس.مسعود البارزاني يعتقد بأن الأكراد لن يقبلوا التحول إلى تابعين يتلقون العطايا والهبات بتعال، حتى وإن أصبحوا الآن في أقسى أيامهم، واعتقادهم بأنهم صناع العهد السياسي الجديد إلى جانب القيادات الشيعية، فلا بد من تعديل الاتجاه الذي يضعهم في الموقع السابق الذي كانوا عليه في العام 2003 أي إحياء التحالف الاستراتيجي الشيعي الكردي، وهذه المسألة لا تحل في ديوان رئيس الوزراء، عادل عبدالمهدي، الذي لا يمتلك قوة سياسية شيعية فهو الآن رئيس جهاز تنفيذي هي الحكومة.الملعب الحقيقي هو عند مقتدى الصدر الزعيم الشيعي الفاعل، ونوري المالكي الذي لم تهتز مظاهر سطوته رغم عدم احتفاظه بمنصب حكومي فهو يقابل السفراء والوزراء المحليين والزائرين، ولدى هادي العامري رئيس الائتلاف السياسي الذي يضم منظمات مسلحة موالية لطهران تحت عنوان الحشد، وعند الرمز الشيعي عمار الحكيم الذي يحتفظ بعلاقات عميقة مع مسعود.البارزاني ليس سهلا وليس مجرد رئيس حزب كردي إلى جانب الأحزاب الأخرى مثلما يصفه بعض خصومه من السياسيين الأكراد. هو رمز قومي في البيئة الكردية التي ما زالت تمجد زعاماتها التاريخية، كما أن قيادة الاتحاد الوطني قد تراجعت مكانتها برحيل الزعيم جلال الطالباني، رغم نشاط نجليه وفعالية زوجته السيدة هيرو.هناك شغل سياسي كثير متعدد الاتجاهات يعقب زيارة البارزاني لبغداد يتجاوز محيط العراق لتتضح صورة العلاقة بين بغداد وأربيل، فالترميم لا يحيي ذلك التحالف الاستراتيجي الكردي الشيعي الذي مات ودفن، ولا قدرة للبارزاني على أن يضيّع وقته في إعادته للحياة، كما أن الدستور، حمّال الأوجه، لم يعد تلك المطرقة العادلة الحاسمة للمشاكل الكبرى.كاتب عراقي
مشاركة :