المقاربات النفسية بديلة لقصور الخطط العسكرية في مكافحة التطرف

  • 11/28/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

باريس - رغم تراجع حدّة التهديدات الإرهابية في العالم بصفة عامة وفي العالم العربي بصفة خاصة عقب القضاء على آخر جيوب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق واقتراب دحره بشكل كامل في سوريا، فإن المخاطر الناجمة عن المتطرفين تبقى قائمة خاصة عندما تتم إثارة جدل “القنابل الموقوتة” التي يمثلها العائدون من بؤر الاقتتال، وخاصة كيفية التعامل معهم في السجون ومحاولة إصلاح أوضاعهم النفسية والفكرية. وتحاول الدول ومراكز الدراسات تقديم استراتيجيات مختلفة لمقاومة الإرهاب، منها ما يعتمد على آليات أمنية وعسكرية خالصة ومنها أيضا ما يرتكز على مقاربات ثقافية ونفسية وسوسيولوجية تكون كفيلة بتخليص الكون من آفة تهدّد الشعوب والدول. وفي سياق مزيد بحث الدول عن مقاربات ناجعة للقضاء على الفكر المتشدد، طرح مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون الشهر الماضي استراتيجية جديدة للإدارة الأميركية لمواجهة الإرهاب. وأشار إلى أن الاستراتيجية الجديدة “أوسع″ من سابقاتها، وتشمل مقاربة لأيديولوجيا الإرهاب .ويعتبر مراقبون أن أغلب المجهودات المبذولة لمقاومة الفكر الديني المتشدد لم تكن ناجعة بالطريقة المثلى نظرا لتراكم العديد من الأسباب التي أدت إلى ذلك ومن أهمها قصور التصورات الأمنية والعسكرية و. يؤكد خبراء أمنيون أن الكم الهائل من المقاربات جاء مرفوقا بافتقار برامج الإصلاح الأيديولوجي التي تقرها الحكومات للمصداقية. ومن بين التوصيات التي ينصح بها الخبراء أن تكون المقاربات مرتكزة على كل ما يتعلق بالاحتياجات النفسية للمتطرفين، لأن التجارب أثبتت أن المقاربة الأمنية أو العسكرية لوحدها لا تكفي. ونجحت بعض التجارب العربية في وضع استراتيجيات معمّقة من ذلك المغرب الذي نجح وفق خبراء في سن مقاربات جنّبت البلاد مخاطر الفكر المتطرف والجماعات الإرهابية المتمركزة بالقارة الأفريقية وخاصة في شمالها. دانيال كولر: مكافحة التطرف لا تنجح إلا باعتماد نظرية البحث عن الأهميةدانيال كولر: مكافحة التطرف لا تنجح إلا باعتماد نظرية البحث عن الأهمية ومن بين الآليات التي اعتمدها المغرب لمقاومة الفكر المتطرّف تبني سياسة تقوم على التحاور المباشر مع المتطرفين لفهم احتياجاتهم النفسية والاجتماعية، والدليل على ذلك أن العاهل المغربي الملك محمد السادس، حضر في شهر مارس عام 2014 خطبة جمعة ألقاها أحد رموز المشايخ السلفيين كان محكوما بالسجن 30 عاما بتهمة “الإرهاب” قبل أن يتم الإفراج عنه بعفو ملكي. والفزازي أعتقل بعد أسبوعين من تفجيرات 16 مايو 2003 التي شهدتها الدار البيضاء وخلفت 45 قتيلا. وفي نفس سياق هذه الرؤية الأخيرة المعتمدة على التحاور لمحاولة الحد من تسرّب الفكر المتطرف في جسد الدولة، قدّم مانويل فالس رئيس الوزراء الفرنسي عام 2016، وفق تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، خطة من 80 بندا تقدر تكلفتها بحوالي 114 مليون دولار لمواجهة الجهاديين. ومن ضمن أحد بنود الخطة إنشاء مركز تجريبي لمكافحة التطرف، هدفه تحويل المتطرفين الفرنسيين إلى مواطنين عاديين يمكنهم العودة والاندماج في المجتمع. وكان الهدف جديرا بالاهتمام، إلا أنه تم تعطيل تنفيذه بسبب تركيز فرنسا على الرمزية القومية العلمانية. وفي المركز، عمل تسعة من المتطوعين لإعادة التأهيل مع المعلمين والأخصائيين النفسيين والأئمة في قصر ريفي في منطقة “لوار فالي” لمناقشة الدين والأيديولوجيات الجهادية. وكان من المتوقع أن يتوقف المشاركون عن تناول الطعام الحلال. وفي كل يوم، كان المشتركون يدرسون التاريخ الفرنسي، والفلسفة، والأدب، وكانوا يرتدون زيّا موحدا، ويغنون النشيد الوطني. وأثار توقف العمل بالبرنامج الذي قدمه فالس بعد خمسة أشهر فقط جدلا واسعا. وانتقد العديد من الخبراء والمسؤولين الفرنسيين هذا النموذج بسبب العيوب التي تضمنها. هذا النموذج يشير إلى أنه عندما يتم عمل خطة بشكل فوضوي، فإن برامج مكافحة التطرف الوقائية لن تفيد أحدا، لا المشاركين ولا الحكومة ولا المجتمع، ويمكن أن تضر أكثر مما تنفع. وبالفعل، أطلق ثلاثة من المشاركين في البرنامج على أنفسهم اسم “العصابة السلفية السافرة” وتم اعتقال شخص آخر في وقت لاحق بجريمة “الاعتذار عن الإرهاب”. ويذهب التقرير إلى أن الحكومة الفرنسية ارتكبت خطأين أساسيين: أولا، رغم رغبة المركز في معالجة الأسباب الجذرية للتطرف، باستعانته بعلماء نفسيين النفسيين، إلا أن النموذج ظل يركز كثيرا على الأيديولوجيا عبر محاولة الاستعاضة عن التطرف بـ”الحقيقة العلمانية الخاطئة”. ثانيا، فقد عزز البرنامج الهويات القومية الغربية بدلا من الإسلامية، وهو اتجاه ناشئ بشكل خاص في فرنسا، نظرا لصراعات البلاد طويلة الأمد حول العلمانية. ومن شأن وجود إطار أكثر شمولا يعتمد على التحليل النفسي لشخصية المتطرف أن يجعل برامج مكافحة التطرف الوقائية أكثر فعالية. وفي العالم العربي، تحاول الجامعة العربية تقديم تصورات علمية للقضاء على مظاهر التطرف، ولذلك بدأت مؤخرا الأمانة العامة للجامعة العربية أعمال الاجتماع الثالث لأعضاء الفريق العربي المعني بالإرهاب والتنمية الاجتماعية. وفي تونس، التي عرفت عقب ثورة يناير 2011، تناميا غير مسبوق للجماعات الحاملة للفكر الإرهابي، حاولت الحكومات في السنوات الأخيرة الخروج من ربط مسألة مكافحة التطرف بالبعد الأمني فقط، لتبعث الحكومة التونسية لجنة لمكافحة الإرهاب تهتم بالتفكير والتخطيط لمقاربات شاملة تعتمد على وجوب فهم الظاهرة وتقديم الحلول العلمية والنفسية والسوسيولوجية. وتساعد خطط معالجة المتطرفين، وفق تقرير “فورين بوليسي”، على رؤية الجهاديين السابقين كأفراد ذوي سمات نفسية فريدة. ويقول دانيال كولر، مدير المعهد الألماني لدراسات مكافحة التطرف، إن خطة مكافحة التطرف يمكن فقط أن تنجح عندما يكون للفرد “انفتاح معرفي” وبيئة تدعم انعكاسه الشخصي. ويشدّد على أنه في مثل هذه الأنواع من البيئة، يمكن للبرنامج أن يبدأ في الاتجاه الفعلي نحو مكافحة التطرف عن طريق تطبيق وإشراك ما يصفه علماء النفس والباحثون بـ”نظرية البحث عن الأهمية” كأحد مكونات الخطة. وتفترض نظرية “البحث عن الأهمية” أن يكون لجميع الأفراد الدافع لأن تكون لهم أهمية في حياتهم..ورأى علماء النفس من بينهم ديفيد ويبر من جامعة فرجينيا كومنولث، وآري كروغلانسكي من جامعة ميريلاند، أن جهود مكافحة التطرف الناجحة قد تعالج على وجه التحديد “عيوب” الأفراد المعنيين. وهذا يعني تحليل معتقداتهم وإعادة توجيه تلك الرغبات نحو أهداف أكثر إيجابية .وتعتبر سريلانكا واحدة من الدول التي استخدمت هذا النموذج، حيث أنشأت حكومة الرئيس ماهيندا راجاباكشا المنتصرة مراكز اعتقال لأعضاء جماعة “نمور تحرير تاميل إيلام” المتمردة المهزومة. وعندئذ أخضعت أفراد الجماعة المحتجزين إلى برنامج مكافحة التطرف الذي يتبع نهجا من ستة محاور يتناول الجوانب التعليمية والمهنية والنفسية الاجتماعية والاجتماعية والثقافية والعائلية لحياة الفرد عند الانتقال والاندماج في المجتمع. وقام كروغلانسكي وويبر، وهما عالما نفس، مع زملائهما بتقييم هذا البرنامج حيث قاموا بفحص 601 من أعضاء جماعة “نمور التاميل”. وفي نهاية المطاف وجدوا أن المشاركين في البرنامج أظهروا مستويات متناقصة من التطرف بفضل انخفاض مشاعر الأهمية التي كانت تسيطر عليهم.

مشاركة :